الموسيقى فن روحي خلقه الله لحاجة الإنسانية إلى ما يهذب روحها ووجدانها. والإنسان حين أشرقت طفولته الفكرية على الكون وجد الموسيقى تملأ أرجاء الطبيعة، فسمع تغريد الطيور، وحفيف الأشجار، وخرير المياه.. وغير ذلك. والإنسان مدفوعا بغريزته الاستطلاعية قد عرف الأصوات الموسيقية وأخرجها من أشجار الغاب، ثم ابتدع أصواتا أخرى، وهكذا إلى أن اكتملت صناعة الآلات الموسيقية وتطورت إلى درجة عظيمة من النمو والاتقان… وعن تفاصيل موسيقية أكثر حدثنا الدكتور ناصر بن حمد الطائي، مستشار مجلس إدارة دار الأوبرا السلطانية بمسقط، خلال زيارته الجامعة.
الموسيقى كائن حي
ترتبط الموسيقى ارتباطًا وثيقًا بالرياضيات، إذ يقول الدكتور ناصر الطائي أنه يمكن بسهولة تتبع هذا الرباط الوثيق من الحضارة الإغريقية للعرب ومن عصر النهضة في أوروبا إلى عصرنا الحديث. ويضيف: “من الأمور المركزية في فهمنا للموسيقى والموسيقى العربية على وجه الخصوص، هو مفهوم الروح، وهي الفكرة التي تقول أن الموسيقى هي كيان حي لديه القدرة على التأثير علينا من خلال عدد لا يحصى من العواطف”. ويذكر أنه لكي تكون هذه الموسيقى فعالة، يجب أن تكون مرتبطة بعلوم الفلك والكون وحركة النجوم، وما إلى ذلك. وهذا يؤسس نظامًا جدليًّا حيًّا يربط المشاعر بالموسيقى والصوت والرياضيات والفلك في إيقاع رائع للحياة. مشيرًا إلى تأكيد أفلاطون في تصوره للمدينة الفاضلة على أهمية الموسيقى وتأثيرها على بناء الإنسان وشخصيته. ووفقًا لأرسطو، تعكس الموسيقى حالات الروح؛ فنوع الموسيقى التي تستمع إليها تؤثر على شخصية الإنسان وعلاقته بالكون.
موسيقى الكون
في الفلسفة اليونانية، يذكر الدكتور الطائي أن نظام فيثاغورس كان جزءًا من المفهوم العام للانسجام، وتوحيد الأجزاء في كل منظمة. إذ كانت الأفكار الفلسفية والقالب الموسيقي والمجتمع انعكاسٌ للكون.
ويشير الطائي أنه من خلال مفهوم الانسجام (Harmonia)، ارتبطت الموسيقى ارتباطًا وثيقًا بعلم الفلك، واعتبرت القوانين والنسب الرياضية ركائز لكل من الموسيقى والأجسام السماوية، كما يعتقد أن تحركات الكواكب تتوافق مع الأنغام والمسافات الموسيقية. إذ أعطى أفلاطون هذه الفكرة مصطلحًا شعريًّا وهو “تناغم الكون” حيث تتشكل الموسيقى عبر حركة الكواكب بشكل كلي.
الموسيقى العربية
أخذ العرب الفلسفة الإغريقية وقاموا بتطويرها، وبلغ هذا النهج ذروته في كتابات الفارابي، الذي كان فيلسوفًا وموسيقيًا. ويشير الدكتور ناصر الطائي إلى أن أبو نصر الفارابي (المتوفى 950) قد كتب عن المنطق والأخلاق والسياسة والفلسفة والموسيقى وأصبح يعرف باسم المعلم الثاني. وظهرت أعماله في أوروبا في الترجمة اللاتينية، إذ كان كتابه “تصنيف العلوم” شائعًا في أوروبا. ويتضمن أحد فصوله تعريفًا شاملًا لعلم الموسيقى. مؤكدًا على أن هذا الفصل أثر على نظرية الموسيقى اللاتينية في العصور الوسطى الأخيرة. كما أن كتابه الموسيقي الكبير (الكتاب الكبير للموسيقى) هو في مقدمة الدراسات النظرية العربية في هذا المجال، وعلى هذا النحو كان له تأثير ملحوظ على نظرية الموسيقى العربية اللاحقة.
السعادة تكمن فيها
وعن الدور الأخلاقي للموسيقى يقول الدكتور الطائي: “شدد المعلم الثاني على الدور الأخلاقي والمدني للموسيقى باعتبارها لسان الحكيم في مخاطبة العامة”، مشيرًا إلى أن المدنية في الموسيقى تكمن في فرض التعلم الجماعي لهذا الفن ومشاركة الأفراد الدارسين وتلقينهم الموسيقى بحيث تكون العملية التعليمية اقتسامًا جماعيًّا للذوق والجمال.
ويضيف الطائي أن الموسيقى تنبه الإنسان إلى المعنى الحقيقي للسعادة وذلك لأن اللذة الموسيقية تعد محاكاة لحقيقة السعادة في عمقها الوجداني، وبهذه الكيفية فإن الفارابي أسس لمنهج تربوي بديع هدفه التوزيع العمومي للسعادة عبر اقتسامها بين المجموعة الدارسة لفن الموسيقى. كما قال الفارابي أن الموسيقى تبعث على اقتناء سائر الخيرات النفسانية مثل الحكمة والعلوم.
مدرسة زرياب
أما عن أبو الحسن علي بن نافع، رئيس البلاط الملكي في قرطبة في القرن التاسع والملقب بزرياب، فيقول الدكتور ناصر: “هو قائد ثورة الموسيقى في العصور الوسطى، ونمط الحياة، والأزياء، وتسريحات الشعر، والأثاث وحتى أدوات المائدة، كان تلميذًا موهوبًا لإسحاق الموصلي، وهو موسيقي شهير في بغداد ومفضل للخليفة العباسي هارون الرشيد. تفوقت موهبته وتميزه في الموسيقى ببطء على موقع معلمه”.
ويضيف الطائي: “أسس زرياب أول أكاديمية للفنون في العالم، وتضمنت تعليم التآلفات والتأليف، وفيما يتعلق بالنظرية الموسيقية، أعاد ترتيبها بالكامل، وحررها من القيود النظرية وخلق طرق جديدة للتعبير هي (الموشح، والزجل، والنوبة) حيث ألف 24 نوبة. كانت كل نوبة عبارة عن قالب من القطع الصوتية والآلية التي نظمت في تسع حركات وكان لكل حركة إيقاع خاص بها”.