قراءة الدكتورة سناء بنت طاهر الجمالية، قسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية
رواية “الوله التركي”، للكاتب الإسباني أنطونيو غالا، الفائزة بجائزة “بلانيتا” للرواية الإسبانية عام (1993)؛ تتناول موضوعًا طريفًا ومهمًا، وهو موضوع الحب المتسم بالوله، وأثره في حياة صاحبه. وقد ترجمت الرواية، إلى اللغة العربية من قبل دار “ورد” السورية، على يد المترجم رفعت عطفة.
تتناول الرواية قصة حياة امرأة إسبانية، تتصف شخصيتها بالجدية والاستقامة، تحيا حياة وادعة مع والدها، وصديقاتها، وزوجها محافظ المدينة التي يقطنون فيها. لا توجد إثارة في الحياة التي تحياها، فقد اتصفت حياتها بالاستقرار والأمان؛ لكن “دسيدريا” أو “دسي” كما يطلق عليها أحيانًا، كانت تبتغي ما هو أكثر من ذلك في الحياة. فقد أرادت البطلة أن تعيش في عمق الحياة لا على هامشها. وكانت “دسي” تشعر دائمًا – كما يوحى لنا – من خلال نظرتها للعلاقة الباردة التي تربطها بزوجها “راميرو”، وعن طريق الحدث الممهد للمغامرات التالية في الحكاية، المتمثل في التقاء البطلة بالمرأة التي تقرأ طالعها؛ أن هناك عاطفة أكبر وأعمق قد خلقت لها، وأن هذه العاطفة بانتظارها في ركن ما من هذا العالم. وفي رحلة سياحية للبطلة مع زوجها وصديقتيها إلى تركيا، تقابل “دسي” المرشد السياحي التركي “يمام”، ليقعا في الغرام دون تمهيد لذلك. ويدفع هذا الغرام والوله “دسي” إلى هجر حياتها الآمنة، لتكون إلى جانب “يمام” في إسطنبول، حيث تبدأ معه هناك حياة جديدة ومختلفة وصاخبة، عما عاشته وخبرته في بلدها من قبل. ونجد أن “يمام” الوديع لا يلبث أن يكشف عن قناعه للبطلة ليظهر على حقيقته، فهو مهرّب مخدرات صغير ضمن سلسلة طويلة من تجار ينتمون إلى عصابة تمتهن هذه المهنة. ويبدأ “يمام” باستغلال “دسيدريا” في أعماله غير القانونية، بأبشع الصور. لتنتهي الرواية بانتحار البطلة، تاركة وراءها أربعة دفاتر كانت قد كتبتها عن قصة حياتها، إلى لحظة رحيلها عن هذا العالم. وبموتها تبوء محاولة صديق طفولتها “بابلو أوكستا”، المخبر السري في جهاز الأمن الإسباني، الذي كان مغرمًا بها في الوقت نفسه، في إنقاذها من براثن “يمام”، والعودة بها إلى إسبانيا. ونلمس مما ترويه لنا البطلة في الدفاتر الأربعة، أن كتابتها لتلك الدفاتر، كانت عبارة عن محاولة منها لتحليل مشاعرها تجاه “يمام”، من خلال سبر أغوار هذا الوله المرضي الذي تحس به نحوه، الذي ينتهي بها إلى موقف ضعف أمامه، بشكل دائم.
فرواية “الوله التركي”، تعد رواية مأساوية، لكون الشخصية المحورية فيها، وهي شخصية البطلة، شخصية تراجيدية؛ “فدسيدريا” بطلة الرواية، تشبه أبطال التراجيديا والملاحم القديمة، إذ نجدها تتفنن في تدمير ذاتها، دون وعي منها في أول الأمر، ثم بوعي مجرد من الإرادة لديها، فكأن قوة غامضة أكبر منها تقودها إلى مصيرها المظلم. لقد تمكنت شخصية “دسيدريا” من استثارة مشاعر الشفقة لدينا تجاهها والخوف عليها، مثل أبطال الملاحم. مما يؤدي إلى حدوث تغيير إيجابي في ذات القارئ، ممّا يخلّصه من أي شوائب عالقة بعاطفته، فقد توجد لديه مشاعر سلبية مماثلة لتلك التي وجدت لدى البطلة. فدور “دسيدريا” في “الوله التركي”، تكمن أهميته في هذه النتيجة التي يصل إليها قارئ العمل، وذلك بسبب ما مورس عليها من عنف. فهذا هو تصنيف هذا النوع من الشخصيات التراجيدية، الذي مثّلته البطلة في هذه الرواية؛ من قبل نقاد مهمين ومتخصصين في الأدب المعاصر، مثل “تيري إيجلتون” الذي تطرق بالحديث عن هذا الصنف من الشخصيات السردية في الأعمال الأدبية في كتابه المهم:”Sweet Violence: The Idea of the Tragic” ، وقد كان ميخائيل باختين قد سبقه إلى القول بذلك في نظريته الشهيرة “الكرنفال”؛ التي تصوّر سلوك الإنسان بمعزل عن التراتبية الاجتماعية المقبولة في المجتمعات الرسمية، وكأن كاتب الرواية يهدف بتخطيطه للقصة، إظهار سلبية بعض المشاعر المتسمة بالاندفاع غير المسوّغ نحو حياة الإنسان، وانعكاس تلك السلبية على شخصية بطلة روايتنا. وينجح الكاتب بفعل ذلك، عن طريق إظهار الخلل الموجود في علاقة المحب بالمحبوب غير المتوازنة، مما يحولها لأن تكون علاقة بين سيد ومسود؛ مدمّرة بذلك عالم المحب. فأنطونيو غالا، يوفق في تصوير ذلك للقارئ، بتركيزه على طبيعة ردود أفعال “دسي” على الأحداث الآخذة في التطور ما بينها وبين “يمام”؛ مؤكدًا بذلك أن العاطفة الجياشة المغلفة بالوله المندفع، ما هي إلا عاطفة مرضية.
ونجد أنّ الكاتب يتطرق، أيضًا، إلى مناقشة قضية مهمة على لسان البطلة، تتعلق بماهية علاقة الحب بين الرجل والمرأة، فهل هي علاقة تقوم على أساس روحاني أو مادي؟! فالكاتب عندما يطرح هذا الموضوع للتحليل على لسان البطلة، يفعل ذلك بهدف فهم وتوضيح نوع العلاقة التي تربط البطلة “بيمام”؛ متخذًا من علاقتهما -“دسي” و”يمام”- رمزًا لعلاقة أي رجل بامرأة تربطهما العاطفة نفسها، ليصل إلى نتيجة مفادها أن الحب الناضج مختلف عن ذلك الذي يقوم على المادة (الجسد).
وتتناول الرواية، أيضًا، قضية أخرى لا تقل أهمية عن سابقتيها، وقد سبق أن تناولتها الآداب العالمية كثيرًا، بما في ذلك الأدب العربي المعاصر. وهي قضية العلاقة بين الغرب والشرق؛ وتتمثل لنا هذه العلاقة في قصة الحب المرضية بين “دسيدريا” الإسبانية و”يمام” التركي. فالبطلة تبحث عن عالم يسحرها، مبددًا رتابة أيامها، ويتحقق لها ذلك في شخص “يمام” وهو التركي الساحر، وفي إقامتها – بعد ذلك – بتركيا المحتوية على عبق الغموض الشرقي، والغموض يكون دائمًا مغلفًا بالخطر. مما يجعلنا نستنتج نظرة الكاتب السلبية إلى الشرق، التي ضمّنها في هذا النص الروائي من خلال شخصية “يمام”. فالشرق – وهو “يمام” هنا – يبعثر كيان الغرب منتهكًا إياه – الممثل بشخصية “دسيدريا” – وذلك مع محاولة الغرب التعالي على الشرق القاصر، ويكون ذلك في بعض الأحيان؛ عن طريق الهرب منه والابتعاد عنه، أو بهدف كسبه إلى جانبه؛ ولكن دون أن تنتج عن كل تلك المحاولات أي جدوى. بل إننا نفاجأ أن الشرق/ “يمام”، هو الذي يرفض أن يتلاقح مع الغرب/ “دسيدريا”، لينتج ثقافة مشتركة؛ معلنًا بذلك كراهيته صراحة للغرب. لذلك فإننا نجد أن الكاتب قد وسم الشرق في الرواية، والذي يمثله “يمام”، بكل الصفات الأخلاقية المدانة من قبل المجتمعات الإنسانية السوية، وبخاصة بعد أن تسبب “يمام” في انتحار “دسي”، مما يدفع بالكاتب إلى أن ينهي الرواية بوصفه “ليمام” على لسان “بابلو أوكستا” بأنه -“يمام”- ليس إلا تركيًا سوقيًا.
تعد “الوله التركي” اليوم، من الروايات العالمية الرفيعة وهي من نتاج القرن الماضي؛ وتحمل في طياتها أفكارًا عميقة تفجر نقاشا حادّا بخصوص: سعي الإنسان وراء ما يظن أنه سعادة، وماهية الحب وأنواعه، وطبيعة علاقة الرجل بالمرأة، وقضية العنف في الحب، والعلاقة الأبدية في نديتها بين حضارتي الشرق والغرب وثقافتيهما. وقد نتفق مع بعض تلك الآراء الصادرة عن مثل ذلك النقاش، ونختلف مع بعضها الآخر إلى درجة إدانتها؛ إلا أن قيمة الرواية الحقيقية تتمثل في شخصية بطلتها “دسيدريا”، الشخصية المعطاء إلى أقصى حدود العطاء.