X638311283768843821

 



  

Banner-02638735669713724437

 

الرمال المتحركة

  • لجينة محمد الحسينية،  كلية الآداب والعلوم الاجتماعية

 

كيف تحولت المقاطع القصيرة حفرة تغوص فيها أدواتنا الإدراكية والحسية ويتوالى معها ضياع أوقاتنا؟،عادت التقنية الرقمية بأفكار تتناسب مع سهولة التصفح وسرعة التنقل ونشأت معها مشكلة لم تصبح هامشية وإنما حاجة داعية للتأمل والنظر بعين المستبق ودعوى مناقشة الحلول بصورة مجتمعية واعية متصرفة في سياق المحافظة على نشأة الشباب من خطورة أغلال تكبل أذهانهم وتستهدف حضورهم الدائم في مطالعتهم المستمرة عبر بث كل ما من شأنه أن يربك تركيزهم ويسرق أوقاتهم.

هناك أنماط شائعة من المحتوى الرقمي التي دخلت إلى عالم التقنية والتي في وقتنا الحاضر توسعت وأصبحت سهلة الوصول للمستخدمين من جميع الفئات العمرية فكانت شاملة من حيث محاولة كسب رضى المشاهدين المختلفين حول العالم حتى أخيرا عادت التقنية بأسلوب جديد أصبح يشكل نسبة كبيرة من المحتوى البصري في وسائل التواصل الاجتماعي وتسمى بالمقاطع القصيرة أو الريلز في تطبيق الانستجرام أو على منصة التيك توك، حيث يتم تصميمها كي تكون قصيرة الأمد ومليئة بالديناميكة لشد المستخدم وتتراوح ما بين 15 ثانية حتى دقيقة واحدة، مما يسمح بمشاهدتها في وقت قصير وبسهولة أثناء التصفح، إضافة إلى قصر إيقاع المحتوى المتسارع فتكون مشبعة بصريا وسمعيا بإضافة الموسيقى أو ما شابهها من محاولات لصب تركيز المستخدم بالكامل لاحتوائها على مشاهد ملفتة معبرة تستقصد قصة أو فكرة وتستخدم لأغراض تسويقية لعلامات تجارية وتعزيز شعبية منتجات وخدمات مجتمعية وفي بعض الأحيان ما يخص بعض القضايا الاجتماعية التي يمكنها أن تحشدهم من خلالها لسهولة إيصال المراد ، وقد نجحت واكتسحت مساحات شاسعة مؤخرا ولا زالت تستخدم بشكل يومي لا متناهي.

ولكن كما أن هناك جانبا منيرا لهذه المقاطع القصيرة إلا أنها تحمل أعباء قد تؤثر سلبا على حياة من لا يمتلك المعرفة والإدراك الواسع في كيفية حسن استخدامها، فتبدو أنها جذابة ومسلية ومثيرة للاهتمام، ولكن على المدى الطويل قد تفقد المرء نفسه من تكرار مطالعتها فتسرق انتباهه وتشتت تركيزه مما تزيد من فرصة فقدان الإحساس بالوقت وضياع أنشطة أكثر أهمية كالرياضة والقراءة ويهمل ذاته شيئا فشيئا وتتدهور صحته العقلية والجسدية بعد فترة من الزمان، وتتعطل كفاءته الإبداعية وتذهب حسرات على ما فرط فيه من وقت.

وعطفا على ما سلف ذكره فإن طوفان المحتوى الذي يبثه العالم الرقمي لا يتناسب مع أعمار وأفكار كثير من الناس فيضر معتقداتهم وسلوكياتهم، حيث يحتوي بعضه على مشاهد عنيفة أو خليعة لا تلائم قيم بعض المجتمعات دينا وفكرا وبالتالي تدمر الأفراد بلا هوادة فيصبح عرضة لتبني سلوكياتها على أفراد مجتمعه من فرط مشاهدتها والإدمان عليها. ومع حتمية تقدم التكنولوجيا وتسارعها فإن تفاقم مشكلة كهذه ستهبط بالمجتمع إلى ما لا يحمد عقباه ، وينشأ إزاء ذلك مجتمع لا ينفصل عن ارتباطه بالتقنية وموادها مدفوعا بحس الاحتياج الواهم ،وهكذا تتوالد عقليات تساق كالأنعام إلى حتفها ، إضافة إلى المشكلات المجتمعية التي ستصيب المجتمع من وراء ذلك فهنالك أيضا المشكلات الأسرية التي سينجم عنها تباعد بخطوات عن أفراد الأسرة وبعد ترابطهم المباشر، فكما يعلم الجميع أن المؤسسة الأسرية تبقى هي اللبنة التي يبنى عليها المجتمع وشخصياته المتنوعة والمتفردة الإبداعية، ولكن ليس في حالة غمامة المشكلة التي سبق ذكرها مع التحفظ بشأن الجانب الإيجابي منها.

تشير خاصية إلى ملخص الحديث عن ماهية المقاطع القصيرة المستهلكة للوقت والتي تضخ بشكل ممنهج باسم "التمرير اللانهائي" ظهرت أول مرة في عام 2006 للميلاد صممها مصمم المواقع ورائد الأعمال "أزار راسكين" وخرجت إلى الضوء مؤخرا عندما وجدت منصات التواصل الاجتماعي نفسها بحاجة ماسة نحوها، فهي تعبر عن محاولة تشريب المشاهد أكبر قدر ممكن من المحتوى المتواصل وهي ممارسة باستطاعتها التأثير على السلوك البشري تستخدم لجذب الجمهور إلى منتج أو خدمة أو سلعة يستفيد منها أصحاب الأعمال، وهي حالة مشابهة إلى معتقد بوذي تسمى ب"عقلية القرد" ويستخدم في وصف حالة العقل الذي تتذبذب وتتسارع فيه الأفكار بلا توقف وهي ذات الحالة التي تنشبه القرد في حركاته المفرطة والمتسارعة عند تنقله بين الأشجار دون جدوى أو تركيز ، وتتعلق هذه الفكرة أيضا بالعقل البشري الذي يسهل ميلانه إلى الانشغال المستمر والتفكير الزائد في أمور لا معنى لها ،وهذا يخفض مستوى النباهة ويتعرض إلى نوبة قلق وتوتر ويفقد الإنسان في هذه المرحلة المؤرقة إلى السلام والهدوء الداخلي والاستقرار الذهني حيث يكون مشغول البال دائم التفكير بفعل انصرافه عن لحظات التأمل والسكينة ، ويعتبر هذا النوع من التفكير مصدرا مقلقا يصل بصاحبه إلى الإرهاق والمعاناة.

وأخيرا فإن عالم يسوده الانشغال وشتات التركيز يمكن أن تشكل فيه المقاطع المتسارعة والقصيرة خطرا كبيرا على الفرد ويليه المجتمع ويضعف من قدرته على التفكير العميق والنقد العقلي ،وبدلا من إهدار الوقت والانغماس في مشاهدة مقاطع قصيرة عشوائية غير مرتبطة ببعضها البعض يمكنك أن تجد القيمة الخالصة في التفكير العميق وإتاحة الفرصة الكافية للعقل في التأمل من خلال تجارب أكثر هدوء وبساطة تساعده على ترتيب الأولويات والأفكار بحيث تساعدنا على النمو والتطور ، فالوقت الضائع أمانة ستسأل عليها، ومن هنا كانت التسمية بالرمال المتحركة نظيرة لمآلات وعواقب المقاطع القصيرة من حيث تشابهها في سحبك إلى قاع التكنولوجيا مشدودا بالتسلية الغير منقطعة تحبس فيه انتباهك وتبعثر ترتيب أفكارك.

About the Author