X638311283768843821

 

 


 

 

Banner-02

 

دمجُ الضرير بالبصير.. بين الواقِعِ والمُتوقَّع 

 

 

  • تحقيق/ سمية بنت سامي المفرجية.

 

تُرسل ريان رسائل متفرقة في وسائل التواصل تتلمسُ فيها زميلة قريبة من المكان الذي توجد فيه بغيةَ مُرافقتها لمحاضرةِ الأدبِ، أو إرجاعها من محاضرةِ البلاغة، فهي تأبى الذهاب والعودة مع المرافقة، وقد تتلقى الكثير من العتاب، فكانت النتيجة أنها حطمت صنم العزلة وأبت أن تكون منفردة كركعة وتر، فاختلطت بزميلاتِ التخصص وأصبحت أشهر من نار على علم في الجماعات الطلابية، بل وأصبحت معلمة قرآن تلقن المبصرات المخارج والصفات بمجسمٍ أتقنت لمسه، وتشرح لهن شفهيا أحكام النون والميم الساكنة، وهي الآن تجاهد في سبيل نيلِ الإجازة القرآنية برواية حفص عن عاصم، يكشف هذا التحقيق مدى تقبل المجتمع العماني ورأيهِ بالدمج وتحديدا الدمج التربوي الذي يكون قبل المرحلة الجامعية، كما يفسر أسباب رفض الأمرِ وقبوله، والعائد النفسي والاجتماعي والعلمي الناتج عن هذا الدمج، وذلك باستطلاع رأي كل من الكادر الأكاديمي والطلبة في مراحل مختلفة وأولياء الأمور.

  • تجارب دول الخليج 

خاضت دول مجاورة كالسعودية وقطر والبحرين تجربة الدمج ففي السعودية أيقنت الحكومة أن المدرسة العادية هي المكان العادي للمعاقين بصريا ومن هذهِ القناعة بدأ دمج المكفوفين بمدارس التعليم العام في السعودية، وهي من الدول التي طبقت الدمج مستندة على أسس علمية من بعد تجارب أولية كانت في عام ١٩٨٤ وبعدها بخمس سنوات فتحت رياض الأطفال أبوابها لهم، أمّا التوسع الكبير فكان في عام ١٩٩٦، وأحدثت هذهِ الخطوة نقلة نوعية على المستوى الاجتماعي والتربوي والنفسي، وآتى هذا الدمج أكله حين لاحظ التربويون تفوق المكفوفين على المبصرين وزيادة مشاركتهم في الأنشطة. 

 

وفي قطر تمَّ دمج المكفوفين في أربع مدارس حكومية مختصة، منها مدرستان بالمرحلة الإعدادية، ومثلهما بالمرحلة الثانوية للبنين والبنات، بحيث يتم تدريب وتعليم الطلبة على القراءة والكتابة بطريقة (برايل)، والتدريب على التنقل والتعرف والتوجيه باستخدام العصا البيضاء، بالشراكة مع معهد النور للمكفوفين، مع البدء بتجهيز معامل متخصصة في مدارس دمج المكفوفين تم تزويدها بأحدث الأجهزة التي تدعم وتيسر تعليم الطلبة المكفوفين.

 

ونجحت البحرين في الدمج بعد تمكُّن وزارة التربية والتعليم من احتضان المئات من هؤلاء الأبناء في مدارس الدمج الحكومية، بعد تهيئتها بكافة الـمتطلبات اللازمة، من صفوف خاصة مصممة بمعايير عالمية معتمدة، وكوادر تربوية مؤهلة، وبرامج تعليمية مطورة، ومرافق وأدوات مساندة لهم في الفضاء المدرسي، مع مراعاتهم في الامتحانات والتقويم، وتخصيص معلم لكل طالب في بعض الحالات، وإشراكهم في أنشطة مركز رعاية الطلبة الموهوبين، وتخصيص بعثات دراسية لهم بغض النظر عن معدلاتهم في الثانوية العامة.

 

  • الدمج البصري

بعد زيارة ميدانية لمعهد عمر بن الخطاب للمكفوفين، تلتها زيارة لمعمل ذوي الإعاقة في جامعة السلطان قابوس تلمستُ واقتربتُ من إجابات غير متوقعة للوهلة الأولى، بين مؤيدٍ ورافض، ولكن الضباب انقشعَ شيئا فشيئا فمن سمِعَ ليس كمن رأى.

 

عند الحديث عن الدمج البصري تذكر الدكتورة  مريم الشيزاوية اختصاصية معلومات بمركز عمر بن الخطاب أنهُ لا يوجد في بلادنا دمج بصري كلي في المدارس ولا حتى جزئي حتى الآن، وتوجد بعض الحالات الشاذة التي تتلقى تعليمها في المحافظات وذلك لتعذر الطالب فيها عن القدوم للمعهد بسبب الظروف الصحية أو البعد الجغرافي، وتذكر مثالا على ذلك ما حدث في جائحة كورونا بعد إغلاق المنافذ البرية إذ اضطرت أحد طالبات المعهد التي تقطن في مسندم تلقي تعليمها في مدرسة التعليم العام وأرسل المعهد لها الوسائل التعليمة التي تلزمها من كتب مكتوبة بطريقة برايل وجهاز البرايل سينس، والدمج الجزئي المقصود بهِ وجود الطالب في المدرسة ولكن في صف خاص به، وهذا مطبق في الدمج السمعي والدمج العقلي، ويدمج  كليا مع الطلبة الأسوياء في مواد النشاط الفردي أي في حصص الرياضة، والموسيقى، والفنون التشكيلية.

 

  • البنية التحتية

ومن حيث البنية التحتية فإن معهد عمر بن الخطاب مجهز بشكل كلي ليلائم احتياجات المكفوفين، فهو مكون من طابق أرضي واحد تقترب فيه الخدمات من بعضها البعض، فيستطيع الطالب بذا تكوين خريطة ذهنية تبقى عالقة بذهنه وذلك لأن المكان لا يتغير ويظل فيهِ طوال سنوات دراسته مذ دخولهِ لمرحلة التهيئة _وهي المرحلة التي تسبق التحاقه بالصف الأول_ وحتى التخرج، حتى أنني دهشت من حفظ الطلبة للأماكن بدقة ووصولهم إليها بسلاسة، بعكس المدارس الحكومية التي قد تحوي دورين أو ثلاثة أدوار مما يشكل للكفيف صعوبة في صعود السلالم، وحفظ كل المرافق والمعالم، كذا فإنَّ على جوانب جدران المعهد توجد مقابض حديدية يمسك بها الكفيف وضعيف البصر حتى يصل للوجهة التي يقصدها، كما توجد موجهات حركة وهي خطوط حديدية بارزة على الأرض تبين للكفيف المسار والمنعطفات، وفيما يخص ضعاف البصر فحتى لون السيراميك له دلالة مختلفة في المعهد، فأمام كل عتبة غرفة توجد قطعة سيراميك بلون غامق لتدل ضعيف البصر أن المكان الذي أمامه هو مدخل، ويختلف المعهد عن المدرسة الحكومية بوجود قاعات طعام منفصلة لكل من الذكور والإناث، كما أن المعهد مرفق بسكن داخلي يضم الطلبة الذين تبعد منازلهم عن المعهد، فيبدأ الطالب بتكوين عادات والاعتماد على نفسه حتى لا يكون عبئًا على أحد ويضم السكن الداخلي مربيات مدربات يقمن بالعناية بالمكفوفين وتدريبهم وتمكينهم وإكسابهم الثقة بالنفس وهذا قد يفتقر إليه الطالب إن كان بجانب أبويه الذين قد يدللانهِ أكثر من اللازم ويخافا عليهِ من الخوض في تجارب جديدة.

  

  • البيئة التعليمية

وفيما يخص البيئة التعليمية وتحديدا القاعة الدراسية فإنَّ الصف الواحد في المعهد مهيأ ليسع عشرة طلبة فقط ولا يزيد على ذلك، في حين أن المدارس الحكومية قد تحوي ثلاثين طالبا وربما أكثر وبالرغم من كونهم مبصرين فإن الفروق الفردية ماتزال ظاهرة ويتحتم على المعلم الالتفات لها ومراعاتها، ومع الدمج ستكون هناك صعوبة في توفيق المعلم بين طلابهِ الأسوياء والطلبةِ المكفوفين، ومن حيث الوسائل التعليمية فإن معلمي المعهد لا يقتصروا على جانب التلقين الشفوي فقط كما قد يشاع بل لديهم طرق واستراتيجيات تختلف باختلاف الدرس مثل استخدامهم للسبورة التفاعلية، وعرض المقاطع المرئية التي ترفق بالضرورة بتسجيل صوتي، فالطالب ضعيف البصر سيتابع الشرح مع الأستاذ، في حين أن المكفوف سيستمع للتسجيل الصوتي، كما تستخدم المجسمات المجردة في حصص العلوم بحيث يلمسها الطالب ويتعرف على الأجزاء، كما يتم استخدام العرائس والدمى لتجسيد بعض المشاهد وتمثيلها، كذا فإن المختبرات العلمية الموجودة في المدرسة مهيأة بما يتناسب معهم، ومركز مصادر التعلم في المعهد يضم كتبا إثرائية مطبوعة بطريقة برايل، وكتب مُكبرة لضعاف البصر، وأكثر ما يضم المركز قصصا قصيرة للأطفال، كما يضم بجانب هذا كتبا مكتوبة بحروف عربية يستفيد منها العاملون في المؤسسة، وهذا كله لا يتوفر في المدارس الحكومية. 

 

  • الجانب الفني والتقني

أما عن الجانب الفني والتقني ففي معهد عمر بن الخطاب تتوفر كتب مكتوبة بطريقة برايل، كما توجد كتب مُكبَّرة، وفنيين مختصين بإصلاح أجهزة برايل حال حدوث أي عطل فيها، وتواجه سلطنة عمان صعوبة كبيرة لتعذر وجود مطابع برايل فأغلب الكتب تصدر من السعودية والكويت، وهناك جهود بدأت بالظهور للنور منها مشروع كتاب برايل السنوي الذي يختص بطبع مجموعة من الكتب وتغليفها.

 

  • التنقل

 

وحول تنقل الطلبة فإن المعهد يوفر حافلات نقل خاصة بها معايير أمان عالية، وسائقي الحافلات يبدون تعاونا واضحا إزاء الطلبة، وقد رأيتُ بأم عيني سائق حافلة يطوف على صفوف طلبته ويأخذ بيدهم حتى يركبوا الحافلة بسلام، فهل سيكون في المدارس الحكومية مثل هذهِ الرعاية والالتفات للتفاصيل؟

 

  • الناحية النفسية

ومن الناحية النفسية تذكر صفية الحوسنية طالبة ماجستير في الإرشاد النفسي لذوي الإعاقة أنّهُ يجب على الجهات المسؤولة تطبيق الدمج منذ مراحل مبكرة من عمر الطفل، حتى يعتاد الطلبة وجود زميلهم الكفيف بينهم فتذوب الحواجز، مؤكدة أنَّ الدمج المبكر سيطمر العديد من المشاكل بل ولسنا بحاجة لاقتراح حلول فالمكفوف يعامل بسواسية مع زملائهِ ولن يكون وجوده دخيلا عليهم، وتشير أنَّ من مساوئ الدمج المتأخر أن الكفيف سيصطدم بمجتمع لم يألفهُ من قبل فتظهر لديهِ مشاكل إزاء هذا كالرهاب الاجتماعي، والعزلة، وتكون هذهِ المشاكل عادة نتيجة تنمرٍ وهمزٍ ولمز، ويسعى المكفوفين لتشكيل أحزاب والتقوقع فيها كردةِ فعلٍ إن واجهوا رفضا من المحيطين حولهم، وتنبه الحوسنية بأنَّ للأهل الدور الأكبر في الاعتراف وإبراز وتقبل حسنات وعيوب فلذة كبدهم، فهم اللبنة الأولى والركن الشديد الذي يلجأ إليه المكفوف وإن أوجعهُ المجتمع يوما فإنَّ أسرته تكون المداوي المطبب له. 

 

  • آراء متنوعة 

فيما تقول الأستاذة شمسة أستاذة وحدة التأهيل أن لدمجِ المكفوفِ بالمبصرِ عدة مزايا أهمها وجود الكفيف بالقربِ من والديه وتلقيهِ العناية اللازمة منهم، أما عن السلبيات فتذكر أنَّ دمجْ الضرير بالبصير مع عدم وجود تأهيل وتدريب للمعلمين قد يوقع في عواقب وخيمة وذكرت مثالا على ذلك ما حدث في العام الفائت حين راقبت معلمات من مدارس مختلفة من مسقط امتحان الدبلوم للمكفوفين وتعاطفن كثيرا مع التلاميذ حتى إنهن شرعن في حل بعض الأسئلة عنهم!.

 

وتدلي مريم المعولية معلمة مادة جغرافيا بالمعهد برأيها قائلة: الأمر لا يبدوا واضحا حتى الآن فيما يخص الدمج فهل سيكون دمجا كُليا أم سيكون هناك صف دراسي معزول مُهيأ في كل مدرسة للمكفوفين، وتضيف من واقع تجربتها أنها تُفضل استمرارها بتعليم المكفوفين لقلة العدد في الصفوف الدراسية وهذا ما يعينها علو زايدة جودة الشرح، كما أن كل طالب سيأخذ حصتهُ وتُبدي توجسا فيما سيؤول عليه الدمج مستقبلا وهل سيولي المعلم جهدا للكفيل كالذي يبذله ويوليه للمبصر.

 

وتذكر فاطمة المعمرية معلمة مادة الرياضيات بالمعهد، والتي قد خاضت التجربتين، تجربة تدريس الطلبة في المدارس الحكومية لأربع سنوات وتجربة تدريس الطلبة في معهد عمر بن الخطاب لثلاثِ سنوات، وتقول: أنه من  الظلم دمجُ الضرير بالبصير فعدم وجود بيئة مهيئة حتى الآن ستظلم الكفيف، وكذا سيتعرض  للظلم من الكادر التدريسي الذي لم يُهيأ للتعامل معه، وسيتعرض للظلم من أقرانهِ المحيطين به، وتستحضر قصةً لطالبةٍ لديها إعاقة بصرية دمجت مع المبصرات ولم توفق في اجتياز العام الدراسي وتعرضت في السنة التي تليها لتنكر من قبل زميلاتها حتى فارقت مقاعد الدراسة وآثرت الجلوس بالمنزل.

 

فيما يذكر الطالب فارس طالب بالمعهد سنوات) بأنهُ ليس مستعدا للدمج ويذكر بصوتهِ الطفولي الذي انساب لأذني بعذوبة أن المعهد قد وفرَّ له الأدوات والمرافق التي تعود عليها، وبقربهِ أقرانه الذين لا يشعر بالاختلافِ معهم ويصعب عليهِ الاختلاط بمجتمع آخر لا يألفه. 

 

وتعقب راحيل العامرية (٦سنوات) أنها تفضل المدارس الحكومية لرغبتها في أن تكون قريبة من أمها التي تقطن في إزكي وهي في السكن الداخلي التابع للمعهد. 

 

ويخالفُهُ الرأيَ سالم بن علي الشرجي (٢١سنة)  طالب بكلية الآداب حيث يؤكد بأهمية الدمج منذ المرحلة الأولى ويعزي تأخر الدمج لقلة رغبة المكفوفين سابقا، ويذكر أن الجيل الحالي يطمح لتطبيق الدمج خاصة المعاقين حركيا وبصريا، كما يذكر أنهُ مازال هناك تغييب كبير وقلة وعي من المجتمع حول هذهِ الفئة وكيفية التعامل معها.

 

ويضيف زميله إبراهيم بن بدر العامري وقد خاضَ تجربة الدمج حتى الصف الحادي عشر ثم انتقل بعدها لمعهد عمر بن الخطاب أنَّ التحدي الأكبر يكمن في  صعوبة تعامل المبصرين مع المكفوفين وعدم إلمامهم بما يجب عليهم فعله ولكن مع مرور السنوات تلمَّسَ تطورا ووعيا في هذا الجانب.

 

ويضيف عبدالرحمن السيابي (١٩ سنة)  أنهُ يؤيد فكرة الدمج ولكن يجب أن تتوفر البيئة التي تساعدهُ على التأقلم السريع، ويذكر مدللا على ذلك الصعوبة التي واجهتهُ في السنة الدراسية الأولى حين كان يدرس مادة الحاسب الآلي ويتأخر في مواكبة شرح الدكتور فحين يكون في الخطوة الأولى يجد أن زملائه قد وصلوا للخطوةِ التالية.

 

ويذكر عبدالعزيز السناني أنَّ الكفيف يستفيد من اختلاطهِ بالمبصر المهارات القيادية التي تحسن وتقوي ثقته بنفسه، كما تكسر المصاحبة الكلفة والحرج الذي قد يتعرض لها المبصر عند طلبهِ للمساعدة، ويشجع السناني الدمج فبالدمج يتعرف البصير ويتقن مهارات التعامل مع الكفيف ولا يكون ذلك دخيلا عليه، ويبرز ما قاله في شخصيتهِ فعبد العزيز حافظ لكتاب الله ويشارك بكثرة في مسابقات الحفظ والتلاوة، كذا فإنه يمارس التعليق الصوتي.

 

ويؤكد كل من العامري والسيابي والسناني بضرورة تخفف الآباء من القلق المفرط إزاء أبنائهم المكفوفين، والسماح لهم بخوض تجارب والاندماج مع العالم الخارجي بشكل أوسع، كما أخبروني بعد اللقاء أنهم قبل سنوات كانوا من أشد الرافضين لفكرة الدمج لأنهم اعتادوا على المعهد ومرافقه فيما يذكر العامري أن المعهد يوفر للكفيف كل ما يلزمه وهذهِ قد تكون سلبية فالكفيف لن يستطيع الاعتماد على نفسه عند وجودهِ في مكان مختلف. 

 

ولناصر بن محمد العامري والد الطالبين عبدالعزيز و رهف رأي محايد فهو يرحب بالدمج حتى تكون لأبنائه دائرة معارف واسعة، ولكنه يرفضه إن لم تهيأ المدرسة بما يحتاجه أبنائه، كما يذكر تكبده لمصاريف الطباعة الباهضة حين يكون الخط الطبوع لهم غير واضح، هذا بجانب العبأ النفسي الذي يتلقاه الأبناء إن نعتهم أحد الطلاب بعبارة محلية " أستاذة هذا الطالب ما يشوف".

 

 

 

About the Author

حسن اللواتي

حسن اللواتي

رئيس قسم الإعلام