X638311283768843821

 

 


 

 

Banner-02

 

اللغة والمجتمع ما بين مؤثرٍ ومتأثر

Najat-Photo

 

  • نجاة بنت صالح الكلبانية-أكاديمية ومدربة 


تخدم اللغة بالدرجة الأولى مهمة التواصل مع الآخر وتبادل المعلومات والمعارف ولكنها أيضاً تمثل سياقاً اجتماعياً وتعكس في محتواها أبعاداً وأهدافاً إجتماعية عدة.
هذه الأهداف الاجتماعية هي ما أثارت اهتمام العديد من الباحثين وكان من أوائل هؤلاء عالم اللغة الأمريكي هايفر سي كاري Haver C. Currie والذي يُنسب إليه الفضل في استحداث مصطلح علم اللغة الاجتماعي وذلك في العام 1952 م.
 وبالرغم من أن بعض المصادر تذكر أن مصطلح sociolinguistics كان قد ظهر لأول مرة في مقال للكاتب البريطاني توماس هدسون بعنوان (علم اللغة الاجتماعي في الهند) إلا أن المصطلح ارتبط كثيراً في أدبيات علم اللغة الإجتماعي بإسم الباحث هايفر كاري. 

ويُعنى علم اللغة الاجتماعي بالدور الذي تلعبه اللغة ضمن الأبعاد الاجتماعية التي تحيط بها. 
فاللغة هي أكثر وأعمق من كونها مجموعةً من المفردات والقواعد النحوية الضابطة والمنظمة وقوانين الصرف والموازين التي يُرجع إليها في وزن النتاج اللغوي من شعر ونثر.

فاللغة في جوهرها هي وسيلة تواصل تربط بين أفراد المجتمع الواحد أو أفراد مجتمعات عدة تجمعهم أهدافٌ وغاياتٌ تحتم عليهم الاتصال والتواصل اللغوي. وعليه فإن اللغةَ محكومةٌ بالسياق الإجتماعي الذي يحكم هؤلاء الأفراد. 

تُعبراللغة عن طبقات المجتمع. فاللغة أو اللهجة التي يستخدمها أيٌ منا تحمل دلالةً على مستوانا الإجتماعي والمستوى التعليمي للبيئة التي ننتمي إليها. فمنذ ظهور الطبقية في المجتمعات ارتبطت الطبقات الراقية بلغةٍ محددة حيث تعكس تلك اللغة فخامة وثراء الطبقة التي ينتمون إليها. فالكلمات محسوبة ومدروسة ومنتقاة بعناية وحتى وتيرتها عادةً لا تكون سريعة ومتسارعة. يعي أصحاب هذه الطبقة أن كلماتهم حين تخرج لها وزنها ووقعها وتأويلها فيزداد حرصهم فيما يقولون والكيفية التي يقولونها بها. وقد ظهرت بعض اللغات وانتشرت في أوساط الطبقات الراقية أو الأرستقراطية في كثير من بلداننا العربية حيث ارتبطت اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية -خاصة في السابق- بأولئك ممن ينتمون للطبقات الراقية أو الطبقات الوسطى الذين يملكون المال الكافي الذي يمكنهم من إرسال أبنائهم للخارج لتعلم إحدى هاتين اللغتين أو  لربما إلحاق أبنائهم بالمدارس الدولية أو الخاصة الموجودة في بلدانهم الأصلية. بالطبع اختلف الحال في الوقت الراهن مع تخصيص الحكومات وخاصةً في دول الخليج العربي الكثير من الموارد المالية لتدريس اللغة الانجليزية في التعليم العام واعتماد اللغة الانجليزية كلغةٍ لتدريس العلوم والتكنولوجيا وعلوم الاقتصاد في مؤسسات التعليم العالي.

على الرغم من كون اللغة الإنجليزية لغة العالم اليوم واللغة التي يتهافت الجميع على تعلمها وإتقانها لما توفره من فرص إلا إنه وفي بدايات القرن الثاني عشر إلى نهايات القرن الثالث عشر كانت اللغة الفرنسية حاضرةً وبقوة في أوساط الطبقة الحاكمة والطبقة الأرستقراطية في بريطانيا وقد كان استخدام اللغة الإنجليزية أكثر شيوعاً بين الطبقات الدنيا ومن قبل الفلاحين حتى أن اللغة الإنجليزية عُرفت حينئذ بلغة الفلاحين.

كما تتأثر اللغة كذلك بالمناصب.  فلغة أهل المناصب هي لغة القوة فنبرة الحديث والمفردات التي يستخدمها من يحمل منصباً تختلف عن غيره وذلك لوجود القوة والنفوذ المرتبطين بالمناصب.   

اللغة تعكس أيضاً المستوى التعليمي للفرد فالمفردات التي يستخدمها الفرد المتعلم يفترض أن تكون مختلفة عن تلك المستخدمة من قبل غير المتعلم. بل إن اللغة قد تعكس أيضاً فيما اذا كان أحدهم من حملة الشهادات العليا دون الحاجة للتصريح بذلك. فحامل شهادة الدكتوراه -على سبيل المثال- قد تظهر معارفه وحصيلته المعلوماتية من خلال المفردات التي ينتقيها وتراكيب الجمل التي يصيغها سواءً كان قيامه بهذا الشي يأتي تلقائياً  أوعمداً رغبةً منه أن يعلم السامعين أنه من أهل النخبة ممن يحملون شهادة الدكتوراه. 

ويظهر للمستمع أيضاً من خلال اللغة الجانب المرتبط بالتخصص فالمفردات التي ترتبط بالطبيب مثلاً تختلف عن تلك المستخدمة من قبل المعلم أو المهندس. وتتركز جرعة استخدام المفردات التخصصية في دوائر الحديث التي يكون جل أفرادها من المنتمين لمهنةٍ ما فَلَو قُدر لك أن تجلس مع مجموعة من الأساتذة أوالأطباء أو المهندسين أو المصممين أو غيرهم ستجد أن اللغة هي قاسم مشترك يعطي لهذه المجموعة طابعها المميز كما تقوم اللغة في الوقت ذاته بمهمة العامل المُعَرِف الذي قد يستخدمه أي فرد من خارج هذه المجموعة ليتعرف على السمة المشتركة لتلك المجموعة.

ثم أن لغة أو لهجة أحدهم تمتلك من المرونة ما يعطيها القابلية لإن تتهذب وتتشكل طبقاً لتحرك أحدهم صعوداً في السلم الاجتماعي أو طبقاً للموقف الذي يجد نفسه فيه أو الأطراف الذين يشترك معهم في الحوار.  لذلك يشير البعض إلى ما يعرف "باللهجة البيضاء" وهي النسخة المبسطة من أي لهجة والتي تسمح بعدد أكبر من الناس على اختلاف أصولهم ولهجاتهم من فهمها وبالتالي تسهل عليهم عملية التواصل والتفاعل مع الآخر.  

ولا يغيب عن أذهاننا أن اللغة واللهجة هما تعبير عن الهوية فهناك من يتشبث بلهجته لدرجة أنه لا يرى حاجةً ملحة في التنازل عن بعض مصطلحاته في سبيل تحقيق هدف التواصل مع الآخرين ممن قد يتحدثون لهجةً مختلفةً تماماً. فحيث إن بعضنا لا يجد غضاضةً من أن ينتقل للحديث -على سبيل المثال- باللهجة المصرية أو السورية أو اللبنانية في حال التخاطب مع شخص من إحدى هذه البلدان، تجد البعضَ يرفض وبشكلٍ قاطعٍ وحازمٍ القيام بذلك ظناً منه أن في ذلك تفريط في هويته المرتبطة والنابعة من اللهجة التي يتحدثها.

كذلك ترتبط اللغة الفصحى في أذهاننا بالأمور الجدية. إذ تعد من الأمور المسلم بها أن تكون لغة نشرات الأخبار والبرامج ذات الطابع الجاد كاللقاءات السياسية والأفلام الوثائقية والحوارات الدينية هي العربية الفصحى. وتنحصر اللهجات الدارجة في البرامج الترفيهية وتلك ذات الطابع الأقل جدية. كما قد يعطي البعض قدسيةً للغة التي يتحدثها ويأتي ذلك غالباً من ارتباطها بالنصوص الدينية. حيث يصرالعرب المسلمين – مثلاً- على اعتبار اللغة العربية أفضل اللغات باعتبار أن الله سبحانه وتعالى قد اختارها لتكون اللغة التي يتوجه بخطابه من خلالها لكلٍ من الإنس والجن. ولا جدال هنا بالطبع كوننا مسلمين ولكن هذه القناعة تأسست لدينا نحن بناءً على ما نؤمن به ولذا يجب ألا ننسى أنه ليس بالضرورة أن يشاركنا غير المسلمين القناعة نفسها فقد يظن الآخرون أن في قناعتنا هذه نظرة تعالي على باقي لغات العالم. 
وقد ورد في الأثر أنه "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم (أو أمن شرهم)" فما أبلغها من عبارة! فبالرغم من قصرها إلا أنها تلخص وبدقة كيف تمكنك اللغة من الدخول لعوالم مركبة تحكمها قواعد وأعراف إجتماعية تجعل منك أحد أفرادها فتصبح اللغة جواز عبور لك وبطاقة هوية تفتح لك الأبواب وتجعل منك فرداً مرحباً به.


 

About the Author