X638311283768843821

 

 


 

 

Banner-02

 

إلى جبل الغائب

11 Jul, 2023 |
  • بقلم: رجاء الصارمية

قبل أيام قليلة التقيتُ بصديقة جمعتني بها أيام الدراسة في الجامعة، ولم ألتقِ بها منذ ذلك الوقت، إلّا مرّتين، سنواتٌ لم أَعُدْ أذكر عددها بالضبط تلك التي لم أرَها فيها.
خرجتُ متأخرة مع أنني كائن حسّاس تجاه الوقت، حاملةً بعض الكتب والكثير من التوتر بعد سنوات الغياب تلك، ما أجمل اللقاءات التي نحمل فيها الكتب، والكثير من نضجنا عبرها!
ابتسامتها لم تتغير وكانت كفيلة بإعادة كلّ الأشياء إلى أماكنها. تأمّلتُ عندها القول القائل: (البعيد عن العين بعيد عن القلب)، لم يَصْدُق معناه لديّ؛ فلا يمكن إسقاط جغرافية المكان على جغرافية القلب، ولا توجد حقائق ثابتة، بل هي أفكارنا تقودنا إلى نسج تلك التصورات حتى نعتقدها فتغدو حقائق؛ وهذا ما ذهبتْ إليه هدى حمد في روايتها لا يُذكَرون في مجاز حين تقول في معرض الرواية على لسان "ألماس": " على كلّ واحد منّا أن يتخيلَ حكاية جبل الغائب كما يشاء.. لا توجد حقيقة مطلقة. توجد فكرة نمضي إليها.."
الحلمُ الذي راود بطلة الرواية منذ أن كانت في الابتدائية هو ما ساقها إلى أن تترك كنبتها (الصفراء) التي اعتادت قضاء أيامها عليها؛ فهي "تتحدث عن الكتابة والأفلام وليس لديها حياة واقعية" على حدّ قول زوجها، وذلك بعد أن وصلتْ إليها هديةً من جدتها، ذهبت لتلاحق أفكارها لينتهي الأمر بها في مجاز حيث يُقايض الناس بضائعهم بكل شيء إلا الكتب، بل إنّ مَن تسوّل له نفسه قراءتها أو جلبها فهو آثم، ومصيره النفي إلى جبل الغائب حيث لا أكل ولا شرب ولا شهوة، وعليه أن يعترف بإثمه، وإن لم يفعلْ فسيُسجن في الحصن.. هذه هي السياسة التي رسمها "ألماس" مستشار سيد الحصن، لساكني مجاز الذين عاشوا وظنوا أن العالم كله "مجازات".
شبكة واسعة من العلاقات التي تنتظم الرواية، وهي تُظهر قدرة كبيرة على ملاحقة تفاصيل مسكوت عنها؛ فجاءت لا يُذكَرون في مجاز حتى لا يعودوا كذلك. ترسم لنا هدى حمد في روايتها عالَمًا أشبهَ بعالم ألف ليلة وليلة ليكون "الضحّاك" هو شهرزاد(ه)؛ يحكي قصص المَنسيّين وهو يضحك. ذكّرني ذلك بمشهد من مسرحية قد كنت حضرتها مؤخرًا؛ إذ وقف البطل مُسائلا نفسه: لماذا يحكي كلّ ذلك وهو يضحك رغم الظلم والطرد والخيانة التي تعرض لها (لا تحسبوا أنّ رقصي بينكم طربٌ؛ فالطير يرقص مذبوحًا من الألم).
تنتهي الرواية بانهيار الحصن على مَن فيه بعد أن أكلته الرمّة، وظلّ "ألماس" على كرسيّه ممسكًا بعصاه، ولم يتجرأ أحدٌ على الاقتراب منه سوى طفل أخذ يصرخ بأن الرمّة تأكل عصاه. "ألماس" الذي عرفت أمه سرَّه عندما سألت الساحر "حِبِين" عن مرضه وهو رضيع فأجاب: "يحتاج رأس رجُل أو امرأة من مجاز"، فضَحّت بخادمها أول الأمر حتى إذا كبِر "ألماس" وأحسّ باقتراب الموت منه دفع بأحدهم إلى جبل الغائب بعد أن يسأله ماذا يريد أن يحملَ معه إلى هناك، تلك الأم هي نفسها التي كتبتْ في كتابِها أنها كانت تتمنى لو أنها سمحت لابنها أن يموت في قماطه، فقد عاشت متألمة مِن هولِ ما تسترت عليه!
تتأرجح الرواية بِخفّةٍ بين عالَمَين/ مكانَين مسقط ومجاز. مسقط حيث العالَم الذي يغزونا برتابته وتعقيداته، فلا نجد مخرجًا إلا "كنبة" نأوي إليها، ونصحو في اليوم التالي لندخل في الدوامة نفسها، ومجاز حيث الأسئلة التي نلاحق أجوبتها فتلاحقنا كـ "شنَّان" الذي أحبّ ثوره "الخشنّ"، وتعلم القراءة والكتابة من أجل أن يقرأ كتبًا تتحدث عن الثيران وتاريخ منازلتها بعد أن خاطر والده بإحضارها، وبعد أن كبر ثوره "الخشنّ"، وتخطى الأربعين كان لا يزال بكامل قواه، وظلّ يفوز في المنازلات ولم يصمد أيّ ثور أمامه حتى تقرر نفيه إلى جبل الغائب فقرر "شنَّان" أن يذهب معه:  "سلب ثوري لبّ قلبي أكثر مما فعلت نسائي"، وحيث الغَيرة التي قد تقطع أيدينا كـ"صفيراء" التي قُطعت يداها وأُدخلتا في زيت يغلي ليتجمد الدم بداخلهما فتفقد هِبَةَ الساحرةِ لها بأن تقلّبَ القلوب بين حبّ وكره، والحُبّ الذي ينزع مسمارًا دُقّ على قلوبنا كـ"الشاعر" الذي وقعت في حبّه ابنة قائد الجيوش رغم المسمار الذي دُقّ على قلبها فلا تقع في حبّ إنسيّ، والنجمة التي تقع في عشقها فتتغيرُ موازين الطبيعة كـ "نُجيم" الذي عشق "الثريا" وسألها أن تكون زوجةً له فنزلت من السماء وتمثّلت في صورة امرأة على مرأى أهل مجاز..
لا يُذكَرون في مجاز، هي دعوة إلى فكرة تقودك إلى القصة التي تريد أن تحياها، وتسحب الضوء من تلك الأفكار المعلبة والحقائق المدسوسة لنا فلا نعود نرى إلا إياها ونعتقد بعدم وجود غيرها. 
حملتُ الرواية معي كي أهديها لصديقتي، لكنني تخليتُ عن تلك الفكرة في اللحظة الأخيرة، رغم أنني أنهيتُ قراءتها، فهي مَن سيحملني إلى جبل الغائب..

About the Author