X638311283768843821

 

 


 

 

Banner-02

 

حِبْرٌ أبيض

28 May, 2023 |

 

 

  • بيان بنت محمد الفرقانية- تخصص اللغة العربية بكلية التربية 

المقال الفائز في مسابقة جائزة النص الإبداعي للعام الأكاديمي 2022/2023

 

 

أوراقٌ مُبعثرة تسرد حُرُوفًا ألوانها باهِتة، ذات أنغام عَطِرة، تُسابق رِيح الدبّور مُمتطِيةً مراكب راسِخة، تُلوّح في سماءِ النَّاسِ ببياضٍ لامِع، تُجسّد حكايات لا نِهاية لها، ترسمُ مواقف لا تُنسى، وتبقى خالِدة لمدى بعيد جدًا، هذه هِي الكِتابة. 

الكِتابة زهرة مِن بُستان ثريّ، لها كيان يتناولها الكاتب ليُبحر في لُجّات حِبرِه، ويُصرّف لنا كومةً مِن أحاديثه الجيّاشة. فالكِتابةُ سبيلٌ لرسمِ لوحةٍ تُعبّر عن كُل ما يحتويه المرء، وما يحبسه في طيّات رُوحه. وتُشكّل الأناملُ حِبرًا في الرَيْعِ وتغوص بقلمها إلى أعماقٍ ساحِرةٍ عجيبة. ومن منطلق ما تحيكه الكتابة من مكانة عالية بالنسبة للكاتبِ وللعالم أجمع، فهي وسيلة تساعد على حفظ العلومِ المُختلفة، حيثُ تُرتّب وتُسطّر الأوراق بأقوالٍ عظيمة تُضفي للروحِ فضاءً من الأمانِ، وحروفٌ موروثٌ تاريخها، باقية إلى عهدنا هذا، فبدونها ستتلاشى العلوم، ولن يكون لها صوت ينتشر للرقي بها. وبالإضافةِ إلى ذلك فإنّ التعبير عمّا هو كامن في ذات الفرد من مشاعر، وهمسات -لا يعرف مصدرها-، وإشارات عن طريق الكتابة هو جسر عبور للوصول إليها وبلوغ مُرادها، فينصب في روحه اطمئنان وسكينة. 

إنَّ الكتابةَ منهجٌ من مناهج الإبداع والتفوق، إذ تُسهم في تطوير الإنسان فكريًا وعقليًا، وتجعله يمتلك روحًا أخرى بداخله، تُلهمه في أحايين كثيرة، وتُخزّن مفردات لغويّة جديدة يتعلّمها أثناء سيره في وصف ما، ومما لا شك أن للكتابة مرتبة سامِية تقوم بدورٍ مهمٍ في فتح أبواب التواصل والتفاهم بين الأطراف والتعبير عنه بحروفٍ أبلغ من السّماع إليه، إذ سيبقى لمدة طويلة، وتستطيع العودة لتلك البصمات متى شئت. 

 وفي هذا الإطار الكتابة فن من فنون توصيل الرسائل الإنسانيّة بطريقة لافتة، حيثُ إنّ الكاتبَ يخوض رحلات يُغامر من خلالها في تقديم حروف تصل إلى الأرواح قبل الآذان، وبها تتكوّن العقول النيِّرة، والأفكار المتوهجة لدى مستمعيها، فالكتابة عالم مليء بالمصابيح المضيئة ألوانها، والناطقة حروفها، والبهيجة مفاتيحها.

وانطلاقًا مما تقدَّم فإنّ الكتابةَ سِلاح لغة قومِنا، ومنهج تاريخنا، ومنبع عقيدتنا، وبها تتكاتف الأمّة على بسطِ مناهل العربيّة وعلومها المُختلفة، فمن وحي الكِتابة تتلبّس العربيّةُ أكسيةً مُزخرفة، تكمُن في أنماط جمّة منها الشعر، والنثر وما يحتويه من فروع، ألا وهن: المقال، والخاطرة، والقصة، والرواية، والمسرحية وغيرهن الكثير. فهذه المآخذ تجعل المُكترث بالعربيّة يُسافر في غِمار الكِتابة حاملاً معه سيلٌ غنيٌّ بِنتاج لغوي، ويصعدُ به إلى مراتب عليا.

فالكتابة صناعة تستوحي مادتها من الألفاظ التي تجول في ذهن الكاتب، وتبني صورًا خياليَّة، وتصبح بواسطة القلم صور ظاهرة خطَّتها أنامله. وقد أسرف السلف في الحث على الكتابة، ومنهم: أبي جعفر الفضل بن أحمد، فيقول: " الكتابة أسس المُلك، وعماد المملكة، وأغصانٌ متفرقة من شجرة واحدة، والكتابة قُطْب الأدب، ومِلاك الحكمة، ولسان ناطقٌ بالفصلِ، وميزان يدل على رجاحة العقلِ". فما يحصده المرء من الفوائد جرَّاء مزاحمة قلمِهِ للكتب والأوراق، وما يصل إليه من المراتب والدرجات والمراكب العظيمة النبيلة عند اقتنائه لجزءٍ من بياضِ قلبه، ومصاحبته إيَّاه، فمن شدَّة البياضِ ونقاء صناعة الكتابة يفنى الحبرُ الأسود من ورقِ الشَّجرِ، وترى تلك الأوراق بيضاء خالصة، يتدفق منها نورٌ مشع، يغلبُ على كل عتمةٍ، وتنمو بواسطته كل بذرةٍ زُرعت منتظرةً لحظة ملامستها عنان السَّماء لتزهر.

وتظل الأوراق والأقلام والكتب بُستان كل كاتب، تمدّه بالقوة، وتزرع فيه الثبات، والثقة بالنفس، والقدرة على تحقيق المُراد، والمضي نحو ما تتوق إليه نفسه. وإذا كانت الكتابة تتمتع بالدرجة الرفيعة والرتبة النبيلة، كان الكُتَّاب يرأفون بتلك المرتبة أيضًا، فعيونهم تُبصر الغريب، وآذانهم تعي ما تسمع وما يٌقال، وألسنتهم تنطق بدون لا حول ولا قوة منهم، إذ يقول ابن المعتز مادحًا كاتبًا:

" إذا أخذ القِرطاس خَلْت يمينَهُ                        تُفتِّحُ نَوْرًا أو تُنظِّمُ جَوْهَرا "

 ويبقى القلمُ ميناء لكل سفينة بدأت بالإبحار باحثةً عن كنوز ثمينة مدفونة، ويسمو القلم بسموِّ صاحبه وترتفع مكانته بين البشر. فالعيشُ مع القلمِ مسيرةٌ ذات عطاءٌ لا ينفذ، ورحلةٌ لا حدود لها، وطريقٌ لا نهاية له، ويقول أبو تمام في وصف القلم:

"فصيحٌ إذا استنطَقْتَهُ وهو راكبٌ                         وأعجمُ إنْ خاطبتَه وهو راجِلُ"

ففصاحة القلمُ تظهر عندما يُباشر الفرد في الكِتابة، وتحلو لغته الفصيحة، وتفريغ مِداد قلمِه في صبغِ ورقٍ أبيض بِحبْرٍ مُنير، أمّا إذا تركتَ القلم يجري في عالَمِه ولم تكن معه فإنّ حِبْرَه سيجف من شِدّة غيابك عنه.

وعليه فإنّ الكاتبَ ينغمس في ابتكارِ عوالم جديدة، يُنشِئ فيها مُدُن حقولها مفعمة بالأزهار والأوراق متباينة الألوانِ بين خضرةٍ وحمرةٍ، ويتسلّق إلى فروعِ الشَّجرِ حاملاً معه نُخبَةً من الأقلامِ والصُّحف المنطفئةِ نورِها، ويشق في جوانب تلك المُدُن سُبُلاً تؤدي إلى إضاءةِ مصابيحها، ويذود عن مخارجها.

ونافلة القول - من كُتُب وأوراق وقلم وحروف ومشاعر- أن الكتابة هي منعطف تكشفُ لك الكثير من قدراتك وإمكانياتك الخفيَّة، تأسر لك روحك وتخفف عنك الكثير، وتشعل بريق آمالك وتطلعاتك، فهي خيوط مَرِحة تنسج لك ثوبًا من الإنجازات والأفكار الإبداعيّة، والتي من خلالها تتشكّل شخصيتك المُلهمة، وتصبح قادرًا على التعبير بكل طلاقة. مارِس مهارة الكِتابة واجعلها عادتك اليوميّة تنفتح مداركك وتتسع حصيلتك اللغويّة من كل جانب، وتحيا حياةً أخرى.

About the Author