X638311283768843821

 

 


 

 

Banner-02

 

"الذخيرة" من أمَّهات الكتب العربية القديمة

16 May, 2023 |

هل ما زال هناك من يفهم اللغة التي كُتبت بها الكتب القديمة؟

  • كتبه: سالم بن ناصر المعمري قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية 

يزخر تاريخنا العربي بالكثير من المؤلَّفات والكتب التي تحفظه وتصونه، وتنقله إلينا وتصفه لنا بصدق وأمانة كبيرة لا نجد نظيرًا لها في كل الحضارات الأخرى، ومن هذه الكُتب ما تميَّز عن غيره وفاق مثيله وقلّ نظيره حتى بلغ به الأمر أنْ عُدَّ أُمًّا وأصلًا ومرجعًا للكتب الأخرى، وفي هذا المقال نتناول واحدًا من أمَّهات الكتب العربية الأدبية والتاريخية، وهو كتاب "الذَّخيرة في محاسن أهل الجزيرة".
يقع هذا الكتاب في أربعة أجزاء، كل جزء يتحدث فيه الكاتب عن عصر ومكان محدد، ومؤلِّف هذا العمل الخالد هو أبو الحسن علي بن بسَّام الشنتريني المشهور باسم "ابن بسام الشنتريني"، ومَن حقَّق هذا الكتاب هو الدكتور إحسان عباس. أما عن الجزء الذي اخترته؛ فهو الجزء الثاني من الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة الذي يتحدث عن الجزء الأندلسي من بلاد المسلمين، يذكر فيه تاريخهم وأمراءهم وحكَّامهم وعلماءهم وبعضًا من آثارهم وأخبارهم شعرًا ونثرًا، وجاء هذا الجزء في 655 صفحة لا تملُّ قراءتها.
ولكنَّ السؤال الآن: هل ما زال هناك من يفهم لغة هذه الكتب البليغة جدًا، ويستطيع قراءة سبكها المحكم؟

يذكر المؤلف في هذا الكتاب سير أعيان الأندلس وعلمائهم المشهورين، ويسرد لنا بعضا من تاريخهم ويروي شيئًا من أشعارهم وقصصهم بطريقة جميلة وطرح موضوعي بإنصاف وموازنة؛ فيبدأ حديثه عن المنطقة الجغرافية التي سيتحدث عنها، وهي بداية من إشبيلية ونواحيها من بلاد الساحل البحر المحيط الرومي -وأحسبه يقصد هنا صقلِّية والقرى المجاورة لها- والجانب الغربي من شبه الجزيرة الأندلسية.
ويعلل الكاتب تركيزه على إشبيلية بقوله: "وحضرة إشبيلية على قِدَمِ الدهر هي كانت قاعدة هذا الجانب الغربي من الجزيرة، وقرارة الرياسة، ومركز الدول المتداولة، ومنها مهدت البلاد وانبثت الجياد..."، وفي ذكر إشبيلية مباشرة يستحضر إلى ذهن كل قارئ ومطلع على تاريخ الأندلس بني العبَّاد سادة إشبيلية ومؤسسوها، الذين قيل فيهم أجمل الرثاء والحداء:
"تبكي السماء بدمع رائح غادي  ***  على البهاليل من أبناء عبَّادِ"

لذلك نجد الكاتب يستهل حديثه في ذكر الأعيان والأشهاد من بني العباد؛ فيبدأ حديثه بأبي القاسم محمد بن عبَّاد، وإيراد جملة من أخباره وقطعة من منتقيات أشعاره، وهكذا مرورًا على شخصيات الأندلس وشعرائهم إلى آخر الكتاب.
ومما تميَّز به هذا الكتاب عند ذكره لبعض أشعار شخصية من شخصيات الكتاب يعطي نبذة تاريخية شعرية لمَن ذكر ذلك المعنى سابقا؛ فنجده يبدأ بسرد أشباهه من الأبيات منذ العهد الجاهلي وأصل الشعر وصولا إلى الشاعر الذي يتحدث عنه.
اعتمد الكاتب في سرد الأحداث وذكر الشخصيات على المناطق بداية من إشبيلية، ولم يعتمد على السياق التاريخي، أو أسبقية الفضل؛ لذلك لا يعدّ هذا الكتاب تاريخيا بحتا بقدر ما هو أدبي.

هناك الكثير من هذا النوع من الكتب في تاريخنا العربي والأدبي؛ فعلى سبيل الذكر لا الحصر نذكر: الكامل في التاريخ واللغة والأدب، والمستطرف في كل فنّ مستظرف، وكتاب الأغاني، وغيرها من الكتب الكثيرة، التي تتشابه في مضمونها وتختلف في طريقة طرحها؛ فيختلف هذا عنها في طريقة سرده للأحداث وتناوله للشخصيات؛ فهو لم ينتهج منهج التقسيم إلى أبواب أو فصول؛ إنما فضَّل الدخول مباشرة في الشخصيات من دون الفصل، شخصية تلو شخصية، يذكر أخبارها وأشعارها.
ومما يختلف فيه الكاتب في مؤلَّفه هذا عن بقية الكُتَّاب والمؤلفين طريقته في سرد الأحداث؛ فالأصل في سرد الأحداث أن تكون بطريقة مباشرة واضحة؛ لكن ابن بسام هنا كان يسردها بطريقة أدبية ولغة قوية مسبوكة ومحبوكة وكأنها نص أدبي؛ فكانت طريقة السرد قريبة جدا من طرق عرض المقامات الأدبية من سجع وجناس مبالغ فيه قد يصعب فهمه على غير الدارسين أو القارئين للغة الفصيحة، وربما أقدم الكاتب على ذلك ليميّز كتابه عن غيره من بقية الكتب الأخرى المشابهة له.

يبقى هذا الكتاب من الكتب الخالدة المخلدة لتاريخنا الإسلامي والعربي والأدبي، وهو من الكتب المعدودة بين أدق الكتب وأصدقها وأوثقها للاطلاع ورؤية بعض من جمال التاريخ العربي عامة والأندلسي خاصة؛ فهو ليس ذلك الكتاب المختص في الشعر فقط؛ إنما تضمَّن الشعر والنثر والنظم ورواية لبعض الطرائف والنوادر، وقصص الأمراء والوزراء والشعراء، ناهيك عن اللغة القوية والمصطلحات الجزلة التي تخرجك منه بحصيلة لغوية كبيرة جدا؛ فهو كتاب يجمع لك كل شيء من لغة وشعر ونثر وقصص وسرد، وبأسلوب لا يُمل.
وإني أراه كتابا باقيًا لا يزال، وهناك الطلب الكثير عليه، والطبعات الجديدة له، والاختصارات الموجزة؛ فهناك من قلَّص هذا الكتاب وقسَّمه وجمع الحديث المذكور فيه عن إشبيلية في كتاب، وعن قرطبة وغرناطة في كتاب آخر، ومنهم من قسَّمه بالعائلة، وغيرهم جمع الشعراء حسب ألقابهم نحو الذين حملوا لقب "ذو الوزارتين" الذي كان شائعا جدا في الأندلس آن ذاك.
 

About the Author