X638311283768843821

 

 

anwar bannar (2)

 

 

 

البحث العلمي والتحكيم العلمي بين عالمين

08 Jun, 2021 |

 

  • أ.د. ماهر أبوهلال- قسم علم النفس- كلية التربية.

يرتكز التقدم العلمي، وبشكل خاص البحث العلمي، على عدد من الركائز منها التمويل المالي للبحوث، والتخطيط الصحيح القائم على فلسفة واضحة للبحث العلمي مدعوماً بالقرار السياسي، وأخيراً، التحكيم العلمي - والذي يهمنا في هذه المقالة. فيعتبر التحكيم العلمي ركيزة مهمة للتقدم العلمي، إذ بدونه من الصعب إكمال حلقة التقدم العلمي. والتحكيم العلمي عُرْف قائم منذ زمن بعيد وتعتمد عليه مراكز البحوث العلمية والجامعات في كل أنحاء العالم. كما تعتمد عليه المجلات العلمية التي تنشر البحوث العلمية في تحديد قيمة نتائج هذه البحوث. وتقوم فلسفة التحكيم العلمي على مجموعة من الأسس من أهمها وجود خبراء لديهم المعرفة العلمية والخبرة للحكم على قيمة البحث من حيث أهميته ومنهجه ونتائجه وتطبيقاته. وفي العادة يكون هؤلاء معروفون من خلال رصيدهم البحثي وتواجدهم في المؤتمرات العلمية ونشرهم العلمي في المجلات العلمية المحكمة، وبراءات الاختراع التي يحصلون عليها. وفي عالم اليوم، عالم تكنولوجيا المعلومات وانتشار الشبكة العنكبوتية، أصبح من السهل التعرف على مثل هؤلاء المحكمين (الخبراء) والوصول إليهم بسرعة فائقة بغض النظر عن أماكن تواجدهم.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: هل يختلف التحكيم العلمي في العالم العربي عنه في العالم المتقدم مثل أمريكا وأوروبا والصين وكوريا؟ إن نظرة سريعة على خريطة البحث العلمي في الدول العربية والانتاج العلمي في هذه الدول يشير إلى فرق في البحث العلمي من واقع أن ما يصرف على البحث العلمي في هذه الدول مقارنة مع الدول المتقدمة لا يكاد يذكر. كذلك إذا نظرنا إلى عدد البحوث المنشورة من هذه الدول العربية لا تكاد تذكر مقارنة مع الدول المتقدمة. وبالمثل فإن براءات الاختراع هي الأخرى لا تكاد تذكر. وبالمثل أيضاً فإننا لو أحصينا أعداد المجلات العلمية التي تنشر بحوثاً علمية هي الأخرى لا تكاد تذكر إذا ما قورنت بعدد المجلات العلمية في الدول المتقدمة في البحث العلمي. وهذا كله ينسحب على عدد الباحثين وبالتالي على عدد الخبراء المحكمين.

توجد قضية أخرى لا بد من الإشارة إليها في هذا المقام وهي أن قيمة البحث العلمي المجتمعية تكاد تنعدم في المجتمعات العربية. وربما يكون هذا أحد الأسباب في ضعف تمويل البحث العلمي من القطاع الحكومي أو القطاع الخاص؛ ولكن في الوقت ذاته، قد يكون ضعف القيمة المجتمعية هو ضعف التمويل. فالحكومات وكذلك القطاع الخاص لا يكاد يولي البحث العلمي أي أهمية لا مالية ولا إعلامية. بالرغم من كل هذا فليس من الصحيح أن نقول أنه لا يوجد بحث علمي في الوطن العربي. إنه يوجد بحث علمي لكنه ضعيف ويوجد تمويل لبعض البحوث البسيطة ذات الآثار الضئيلة، ويوجد مجلات علمية بعد قليل جداً، ويوجد باحثون ومحكمون ولكن بأعداد ضئيلة ربما يكون سبب ضآلتها ليس العدد بحد ذاته بقدر ضعف الرغبة في تحكيم البحوث والمشاريع. ففي حين أصبح عرفاً لدى الباحث الغربي أن يقوم بالتحكيم كجزء من خدمته للعلم ومجال البحث والتخصص، فإن الباحث (الخبير) العربي يعزف عن تحكيم البحوث.

ومن هنا بدأ عرف في العالم العربي بتخصيص مكافآت مالية رمزية لتشجيع الخبراء المحكمين على تحكيم البحوث سواء لأغراض التمويل أو لأغراض النشر في المجلات العلمية. وفي هذا السياق دعونا نعرض تجارب المجلات العلمية في جامعة السلطان قابوس وهي أمثلة على المجلات العلمية في جامعات الوطن العربي المختلفة. في بداية الأمر كانت المجلات التي تصدرها جامعة السلطان قابوس تعتمد الأسلوب الغربي في تحكيم البحوث بأن لا تخصص مكافآت مالية للتحكيم. ولكن هذه المجلات عانت بسبب ذلك، فكانت البحوث التي تنشرها هذه المجلات من المستوى الضعيف وتصدر بأعداد قليلة من البحوث الضعيفة. وبعد فترة تم تقييم التجربة وظهر أنه لا بد من تخصيص مكافآت مالية للتحكيم فانتعش بعضها، ولكن ليس إلى المستوى الغربي. وربما يكون السبب في ذلك هو قلة عدد هؤلاء المحكمين أو الراغبين في التحكيم، إذ إن كثيراً منهم يرى أن المكافأة غير مجزية للانخراط في عملية التحكيم. وأنا هنا أخص بالذكر المحكمين في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية والقانونية، التي أعرف عنها أكثر من مجالات العلوم الطبيعية، لكنني أعرف أن هذه المجلات تعاني كما تعاني المجلات الإنسانية والاجتماعية والقانونية. فقد طلبت بعض هذه المجلات أن تتساوى مع مجلات العلوم الإنسانية والاجتماعية/ التربوية فيما يتعلق بالمكافآت المالية وأصبح بعضها يصرف هذه المكافآت للمحكمين.

بالرغم من ذلك فإن قوائم المحكمين المتوفرة لدى المجلات العلمية لا تتعدى أصابع اليد الواحدة في التخصص الدقيق الواحد. قضية أخرى مهمة تتعلق بالمحكمين في العالم العربي هو ضعف التحكيم وقلة الجدية في عملية التحكيم. وبدون الدخول في تفصيلات التحكيم فإن نسبة الجادين في عملية التحكيم لا تتجاوز 20% على أحسن تقدير، ناهيك عن التضارب في التحكيم. لكن هنالك قضية تتعلق باختيار المحكمين من قبل هيئات التحرير. قبل ثورة المعرفة الحالية وانتشار الشبكة العنكبوتية كانت هيئات التحرير تعتمد على استقطاب السير الذاتية للباحثين لتحديد التخصص والدرجة العلمية. فمن الأعراف المتبعة في كثير من الدول العربية أن من يقوم بتحكيم بحث لأستاذ أو أستاذ مشارك لا بد أن يكون أستاذاً أو أستاذاً مشاركاً. في هذه الأيام، أصبح من السهل التعرف على السيرة الذاتية للمحكم من خلال الشبكة العنكبوتية. بالرغم من ذلك فإن نسبة كبيرة من الباحثين ذوي الخبرة لا يتعاملون كثيراً مع التكنولوجيا، وبالتالي يصعب الوصول إليهم من خلال الشبكة العنكبوتية. عليه، تضطر هيئات التحرير إلى مراسلة هؤلاء وطلب سيرتهم الذاتية للتعرف على تخصصهم الدقيق ودرجتهم العلمية.

إذا قارنا هذا الوضع بما يحدث في العالم الغربي تحديداً نجد أنه لا يوجد مجلة تطلب من المحكم أن يرسل سيرته الذاتية لسبب بسيط يتمثل في أن المجلات في العالم الغربي تعتمد على قواعد البيانات في الشبكة العنكبوتية. ومن خلال الشبكة تعرف اهتمامات الباحث المحكم وتخصصه من واقع النشر العلمي الذي يقوم به. فليس مهماً لهذه المجلات الرتبة العلمية طالما أن الباحث نشر عدداً من البحوث في تخصصه. ويقوم هذا الإجراء على افتراض أن من نشر عدداً كافياً من البحوث في تخصصه لا بد أنه حصل على ترقية إلى رتبة أعلى. الوضع مختلف كثيراً في عالمنا العربي إذ إن نسبة لا بأس بها من الباحثين لا وجود لهم في قواعد البيانات خصوصاً إذا كان نشرهم باللغة العربية ومن الصعب معرفة اهتمامات الباحثين وبحوثهم المنشورة التي أغلبها نشرت في اللغة العربية وفي مجلات لا وجود لها على الشبكة لا سيما البحوث التي نشرت في أوقات مبكرة. عليه من الضروري الحصول على سيرهم الذاتية. من هنا نلاحظ أن هيئات تحرير المجلات العربية تعاني في الوصول إلى خبراء محكمين يمكن أن يعتمد عليهم في التحكيم ولهذا أيضاً نجد أن المجلات العربية لديها عدد محدود جداً من أسماء الباحثين وعناوينهم سواء الفعلية أو الإلكترونية. وقياساً على أن من يقوم بتحكيم الترقيات يجب أن يكون في رتبة أستاذ أو أستاذ مشارك فقد تطور عرف قائم على أن من يقوم بتحكيم بحوث الأساتذة لا بد أن يكون أستاذاً ومن يقوم بتحكيم بحوث الأستاذ المشارك لا بد أن يكون أستاذاً أو أستاذاً مشاركا. وهذا بدوره قلل عدد المحكمين الذين يمكن الاعتماد عليهم في تحكيم البحوث للمجلات العلمية العربية.

ختاماً، فإننا نعيش في عالمين مختلفين في تحكيم البحوث، لكل منهما فلسفته وإجراءاته. وحتى يمكن أن نصل إلى موقف نقارن فيه التحكيم العلمي في بلدان العالم العربي مع بلدان العالم المتقدم لا بد من إعادة النظر في الفلسفة والإجراءات وهذه طريق طويل قد لا يعيش أحداثها جيلنا. هذا يتطلب إعادة النظر في فلسفة وتخطيط البحث العلمي وتمويله المادي إضافة إلى ثورة إعلامية موجهة للمجتمع تضع البحث العلمي في أولويات السياسات الرسمية وسياسات القطاع الخاص، وتخلق وعياً مجتمعيا يساهم في احترام البحث العلمي ونتائجه وبالتالي دعمه على مستوى الأفراد والمجتمع.

About the Author