X638311283768843821

 

 


 

 

Banner-02

 

فرحة العمّة مريم

08 Dec, 2021 |

 

  • د. يحيى بن محمد الفارسي- قسم طب الأسرة والصحة العامة- كلية الطب والعلوم الصحية.

 

لا أعلم كم مرةً رأيت "العمّة مريم" في كلية الطب والعلوم الصحية بجامعة السلطان قابوس، ولكن الليلة هي المرة الأولى التي أراها خارج الكلية، حيث رأيتها في حفل التخرج بالمسرح المفتوح في الجامعة. كانت جالسة جهة الخريجات، تعلو محياها البهجة والفرحة. ولأول مرة أراها بغير ملابس العمل، فقد ارتدت ثوباً عمانياً واسعاً زاهي اللون مطرزاً في وسطه وأطرافه، ووضعت فوق "اللّحاف المزركش" عباءة سوداء على الرأس. وعلى الرغم من آثار الزمن الظاهرة، إلا أنها كانت جميلة، فوجهها المدوّر وعيونها الصغيرة كانا انعكاساً لطيبة قلبها الغامرة التي تشع سناء على ملامحها.

رؤيتها في حفل التخرج حرّكت طيف الذكريات منذ أن التقيت بها لأول مرة قبل ثمانية وعشرين عاماً، إذ كانت أول من رأيت حين دخلت كلية الطب خلال الأسبوع التعريفي للطلبة الجدد. في ذلك اليوم كانت تمسح الغبار عن نوافذ الكلية وأبوابها الزجاجية. وحين رأتني حيّتني بابتسامة هادئة وحركة رقيقة من يدها، وهي الطريقة نفسها التي كانت تحيّيني بها كلما صادفتها في الكلية، أو كلما مررت بجانبها وقت الضحى حين كانت تكنس الأوراق المتساقطة من شجر "الشّريش" في باحات الكلية. لم تتوقف العمة مريم عن العمل حتى عندما أتعبتها ركبتاها، فقد ظلت تؤدي مهامها على أكمل وجه. وعندما تتعب كانت تأخذ قيلولة خفيفة أسفل الدرج المحاذي لقاعة المحاضرات الطبية.

أخذني طيف الذكريات إلى لقائي بها قبل ثلاث سنوات، عندما شاركتها تناول القهوة في ظل الشجر بالكلية، فقد ترددت عن البوح بسر تمسكها بالعمل، حين تطفلت واقترحت عليها أن ترتاح ليقوم الأولاد بالدور. ثم بعيون قانعة أخبرتني أن "أحوالها طيّبة" والعمل يُمكنها من تغطية تكاليف الحياة، فهي تسكن في بيت صغير تستضيف فيه ابنتها الأرملة وحفيداتها الثلاث إثر وفاة زوج ابنتها في حادث سير أليم منذ بضع سنوات. وهي تعد وجود البنات مع أمهم في بيتها هبةً ربانيةً جلبت لها الحظ السعيد والخير والبركة. فالبنات يوقّرنها كثيراً وهن مجتهدات في الدراسة خصوصاً البنت الكبيرة التي تدرس في كلية التمريض بجامعة السلطان قابوس. فهي "بنت طيّبة" تبادر بالمساعدة وتحب الخير للناس، فقد بادرت بمرافقتها في المستشفى لأسبوع كامل حين أجرت عملية الركب، وهي من تتفقد أدويتها، وتنام معها في الغرفة نفسها، وتشاركها حكاياتها عن الدراسة والحياة في الجامعة.

وصل طيف الذكريات إلى حفل التخرج الحالي حيث الخريجون والخريجات يرسمون لوحة الفخر والجلال بوشاح الجامعة المجيد وزي التخرج البهيج. كان عبق فرحتهم يفوح بين جنبات المسرح المفتوح، وأما أنفاس الهواء العليل التي تهبّ من ربى المسرح المفتوح فكانت كأحلام المساء الساحرة.

انتهزت فرصة اللحظات قبل بدء حفل التخرج لأبادر العمّة مريم بالإشارة بالسلام، وحين رأتني ردّت عليّ -كعادتها- بالابتسامة الهادئة والحركة الرقيقة بيدها، ثم أشارت بأصبعها إلى إحدى الخريجات. كانت الخريجة تبدو رائعة بثوب التخرج الزّاهي وهي ممسكة بباقة الورد بفرح وسرور مع زميلاتها الخريجات. كانت الخريجة ذات ملامح هادئة ووجه مدوّر وعيون صغيرة تشع طيبة وحناناً تماماً مثل جدتها الطيّبة "العمّة مريم".

About the Author