"وباء كورونا المستجد واهتمامات المؤرخين " رؤية المؤرخ يوفال نوح هراري أنموذجا
- د. علي الريامي - رئيس قسم التاريخ - كلية الآداب والعلوم الاجتماعية.
منذ إعلان منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا المستجد كوفيد_19 جائحة، وهو يثير جدلًا ونقاشًا واسعًا في أروقة الحكومات بحثًا عن حلول لتداعياته. وعلى مستوى مؤسسات الرعاية الصحية، ومختبرات علماء الأوبئة، بحثًا عن علاج وتطوير لقاح له؛ فما حدث كان جائحة غير متوقعة، وأزمة ألقت بظلالها على دول العالم أجمع، وشهد الاقتصاد العالمي بسببها انكماشًا وركودًا لم يشهده منذ الكساد الكبير في العام 1929، في أغلب قطاعاته.
في هذا المقال المختصر نتناول أطروحات المؤرخ يوفال نوح هراري؛ إذ تكتسب أطروحاته أهمية من منطلق تخصصه في الدراسات القروسطية، واهتمامه بالديمغرافيا التاريخية بشكل عام، فكما نعلم شهدت العصور الوسطى المتأخرة خاصة العديد من الكوارث، كالمجاعات والأوبئة والحروب، ويمكن إيجاد مقاربة نظرية مع أكثر الأوبئة تأثيرًا وفتكًا وهو الوباء المعروف بالطاعون الأسود أو الجارف في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي، الذي اتخذ آنذاك صبغة عالمية، فكان عابرًا للقارات، ثم تكررت الأوبئة بعد ذلك على شكل موجات دورية متواترة.
وقبل أن نعرّج إلى الأفكار والرؤى التي طرحها المؤرخ يوفال نوح، يمكن أن نستشهد بنص من تراثنا الفكري العربي وهو لابن خلدون وصف فيه ذلك الوباء، وصفًا يكاد ينطبق على ما أحدثه وباء كورونا المستجد من آثار على الصعيد الديمغرافي والاقتصادي، حين قال عن تداعياته:
''ذهب بأهل الجيل، وطوى كثيرا من محاسن العمران.. وانتفض عمران الأرض انتفاض البشر، فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل.. وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفه وعالم محدث".
وعودًا إلى ما طرحه المؤرخ يوفال من أفكار حول الوباء وتداعياته فيمكن تلخيصها في الآتي:
*أن الطبيعة البشرية لم تتغير كثيرًا، ولا تزال على حالها، إذ قال: "إن عدونا الحقيقي ليس الفيروس بذاته، بل الشياطين في داخلنا، أي الكراهية والجشع والجهل"، والحقيقة أن هذا ما لمسناه واقعًا مع بداية الجائحة، وفي أكثر الدول مدنيّة وتحضرًا وتقدمًا وذكر في ذات السياق: أن وجود الناس الذي يصدقون نظريات المؤامرة بدل تصديق العلم يوحي بأنه لم يتغير الكثير في السلوك البشري منذ القرون الوسطى - فترة الطاعون الأسود - وأن ردود أفعالهم الأولية تقدم دليلًا على ذلك، مشيرًا إلى أن التعامل مع الأوبئة في الوقت الحاضر أفضل بكثير من أي وقت.
*يرى كذلك أنه لا يمكن توفير الحماية من الوباء بغلق الحدود، بدليل انتشار الأوبئة في العصور الوسطى بسرعة، مع أن عبور الحدود آنذاك أصعب بكثير من اليوم، إذ لم تكن هناك وسائل نقل كما هو الآن، ومن جانب آخر ذكر قائلاً: "لا يستطيع اقتصاد معاصر أن يستمر في ظل إغلاق دائم ومستمر للحدود"، فعالم اليوم متصل متشابك. ويرى يوفال أن الدرس الذي يجب تعلمه من وباء كورونا المستجد هو زيادة التعاون الدولي، ومشاركة المعلومات التي تملكها الدول، والثقة المتبادلة فيما بينها.
*وعند سؤاله عن تصاعد النزاعات القومية وعلاقتها بالجائحة، أشار إلى أن الوباء يحذرنا من نزاعات قومية مفرطة، وأنه في حالات تفشي الأوبئة لابد من التعامل مع الأجانب لحماية أبناء الوطن، فـ "حتى لو تمكنت من حماية أبناء بلدك، بينما يستمر الوباء في التفشي في بلد آخر، فإن ذلك يشكل خطرًا على أبناء بلدك، لأن الوباء قادر على العودة إلى بلدك في شكل أسوأ".
* أيضًا أثار يوفال مسألة في غاية الأهمية والحساسية، وهي متعلقة بتقييد الحريات في التنقل والتصرفات كما يراها الكثيرون، وذهب بعيدًا عندما قال: "أزمة كوفيد_19، قد تكون لحظة فاصلة، لحظة تغيير مهمة في تاريخ المراقبة، ثمة ثورة وتغيير في المراقبة، من مراقبة خارجية إلى مراقبة داخلية". مع إقراره بالحاجة إلى أدوات مراقبة حديثة، لمواجهة الوباء وربما أوبئة أخرى في المستقبل، لكن على ألا تثير تلك المراقبة الريبة والشكوك والخوف والذعر لدى أفراد المجتمع، ويرى أن تكون في اتجاهين: "إذا تضاعفت مراقبة الأفراد فيجب مراقبة الحكومات للحدِّ من الفساد، بذلك يمكن أن نخلق توازنًا ونتفادى خطر أي نوع من التوتاليتارية".
تأتي مثل هذه الأطروحات والرؤى والأفكار التي طرحها يوفال، وعدد من الفلاسفة والمفكرين المعاصرين، في خضم ما يدور في أروقة مراكز الفكر المعنية بالدراسات المستقبلية، وبمآلات الوجود الإنساني وصيرورته في النظام العالمي لحقبة ما بعد جائحة وباء كورونا المستجد، إذ يتم بشكل مستفيض مناقشة التساؤلات الوجودية العميقة في الحياة الإنسانية المعقدة والمتشابكة، وعلاقة الأفراد بالسلطة، أيًّا كان شكل تلك السلطة: سياسية، دينية، اجتماعية، ثقافية.
About the Author