الفضاءات المفتوحة وتعزيز ثقافة النشر التاريخي
- د. علي الريامي - أستاذ مساعد- قسم التاريخ ، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية .
يُمثل التاريخ والتراث أحد المرتكزات في صراع الهويات وإثبات الذات، وقد نمت في العقدين الأخيرين بقوة تيارات فكرية تنادي بالهويَّات الضيقة، والتمسك بالقوميات، والأخطر من ذلك من يحاول اصطناع هويّة مجتزأة مستقلة عن هوية أكبر، وقد تزايدت مؤخرًا صناعة تزييف التاريخ لعوامل مختلفة لعل السياسية في طليعتها، ومن جانب آخر أسهمت وسائل التواصل الحديثة، وشبكات التواصل الاجتماعي في سرعة انتشار المعلومة؛ التي من خلالها أصبح بإمكان كل فرد أن يكون صانعًا للمعلومة والخبر التاريخي؛ وهكذا امتزجت المعلومات الدقيقة مع المغلوطة والمزيفة، وأصبح العبء أكبر على المتخصصين لدحض ما يُثار من مغالطات، والمشاركة في صناعة محتوى إلكتروني موثوق يتّسم بالمصداقية.
ويلقى التاريخ الوطني إقبالًا كبيرًا من مختلف شرائح المجتمع، إذ يرى فيه الأغلبية مادة تذكرهم ببطولات الأسلاف ومنجزاتهم الحضارية، بل أحيانًا يرون من خلاله ما يغذي نزعاتهم الإنسانية المختلفة في أبعادها الدينية، والعرقية، وحتى المناطقية، ولم يعد التاريخ حقلًا محتكرًا من قبل فئة بعينها، ولا محصورًا بين الدارسين وحملة الشهادات التخصصية، وإنما بات مجالًا خصبًا يرتع فيه الكثيرون، على حساب الصرامة المنهجية، وحس النقد التاريخي الذي لم يعد هاجسًا يشغل هؤلاء؛ طالما أن الفضاءات مفتوحة للجميع، للدارس والمتخصص المجيد، وللهاوي على حدٍّ سواء، بل إن غير الملتزمين بقواعد البحث الرصين باتوا الأكثر حضورًا وقربًا من عامة المتلقين الذين تجذبهم المعلومة الخفيفة القصيرة، دونما اكتراث أو تحقّق من مصداقيتها، فتنتقل سريعًا وتغدو وكأنها هي الحقيقة، ومع مرور الزمن ستصبح كذلك يوما ما، ما لم تجد من يقوّمها أو يصوبها.
لا يعني ما سبق ذكره نفي صفة البحث الرصين، والتقصي الأمين لبعض هواة كتّاب التاريخ والتراث، فهناك بعض الأمثلة المشرّفة التي أثبتت جدارتها البحثية، وكانت خير معين للمتخصصين أنفسهم في تقديم المعلومة، خاصةً في الموضوعات الحضارية التي تركّز على الوصف، ولا تتطلب مقاربات، ولا مداهنات، ولا انحياز ولا تناقضات.
وفي سبيل السعي إلى تعزيز ثقافة النشر التاريخي التي تتوخى الصدق في تقديم المعلومة من مصادرها ومضانها الأولية، وبالحيادية والموضوعية والعقلانية دون إفراط أو تفريط، ودون تقزيم أو تجريح، ودون إثارة لنزعات شخصية؛ أضحى من الضروري تعزيز وإعلاء قيمة الوعي بأهمية البحث التاريخي الرصين، وفق بناء متماسكة قواعده وأركانه، فكما ذكر المؤرخ الفرنسي لوسيان فيفر (Lucien Febre): "لا هندسة معمارية دون مشروع معماري، ولا تاريخ دون فرضية عمل"، بمعنى أن تكون الكتابة التاريخية مشروعًا وليست مجرد تسلية.
ختامًا يمكن القول أنه مع تشعّب قضايا التاريخ والتراث، ووجود تخمة في المعلومات، والتوسع في النشر بشقّيه التقليدي والجديد عبر مختلف وسائل الاتصال الحديثة المعروفة، فضلًا عن تداخل العلوم؛ بات من المهم تعزيز أدوار الأقسام الأكاديمية المعنية، والانفتاح أكبر على التخصصات الأخرى، ومواكبة تكنولوجيا العصر وتوظيفها لخدمة عرض المحتوى الذي نرغب، كما يمكن الاشتغال على إيجاد أرضية لمنظومة تشاركية مع مختلف المؤسسات الرسمية والمدنية ذات الصلة، وكذلك مع المهتمين وحتى مع غير المتخصصين والهواة، المتميزين منهم، إذ يمكن من خلال ذلك، تبني برامج صقل وتأهيل تعنى بالقضايا المنهجية العلمية اللازمة.
About the Author