X638311283768843821

 

 

Banner-02

 

 

 

الطريقُ الصوفي (بين الرحلة الروحية والراحلة الإثنوغرافية)

19 Dec, 2019 |
  • د. ياسر منجي- ناقد ومؤرخ فني مصري، أستاذ مساعد قسم التربية الفنية- كلية التربية.

على امتدادِ قرون عدة، ظل طريق الرحلة المُفضِية إلى بلد الله الحرام، انطلاقًا من المغرب الأقصى مرورًا بساحل شمال إفريقيا ومصر، يمثل شريانًا دافقًا بتتابُعات رحلاتٍ من نوعٍ فريد، لعب فيها كبار المتصوفة أدوارًا فارقة على مستوياتٍ عدة، روحية، وفكرية، واجتماعية، بل وتعدّى الأمر هذه المستويات المتوقَّعة، للوُلوج إلى فضاء السياسة، وساحات الحروب.

وقد سُجِّلَت تجارب هؤلاء المتصوفة الكبار، ودُوِّنَت شهاداتهم ويومياتهم وخواطرهم، المتحصلة من هذا الاشتباك، في سردياتٍ كبرى، سرعان ما أصبحت من مشاهير أمهات الكتب والمصادر، التي يعكف على دراستها حاليًا علماءُ وباحثون في شؤون التاريخ والإثنوغرافيا والفكر والأديان المقارنة.

ولعل أحد النماذج القياسية التي تكشف عن فرادة هذا النمط من الإنتاج الفكري، المتحَصِّل في الأساس من الترحال صوب مهبط الوحي، يتمثل في الرحلات الثلاث، التي قام بها "ابن جبير الأندلسي" (المتوفى: 614هـ) - الذي استقر به المقام في مصر، وعُرِف فيها لاحقًا باسم (سيدي جابر) ـ إذ في غمار الرحلة الأولى، التي بدأها من "غرناطة" عام 579هـ لتنتهي عام 581 هـ، سجل "ابن جبير" مشاهداته وملاحظاته بأسلوبٍ فريد، جمع بين الدنيوي والديني، وخلط بين أغراض التأريخ، والرصد الإثنولوجي، بل والتوثيق الثقافي لطُرُز الملابس، والعادات والتقاليد، وأنماط الأطعمة والأشربة، ووسائل النقل والمواصلات، بعينٍ لاقطة فاحصة، ونَفَسٍ أدبيٍّ جمع بين جماليات النص وصرامة التأريخ.

وتتجلى فرادة نموذج "ابن جبير" على وجه التحديد، في أنه برغم كونه رحالة، إلا أن المِخيال الشعبي المصري حوله لاحقًا إلى مرتبة الولاية الصوفية، بعد وفاته بالإسكندرية التي دُفِنَ بها، في ضريحه الشهير الذي صار عَلَمًا على منطقة "سيدي جابر" بأسرِها.

فالرحلة هنا إذن كانت مَعبرًا ما بين الدنيوي والسماوي، ليصير الطريق مَجازًا وارتقاءً ومعراجًا، يتجاوز الصفة الجغرافية الاعتيادية، منطلقًا صوب طموح الارتفاع على المستوى اليومي المادي، إلى مستوىً من الدَيمومة الروحية، فإذا بالرحالة وقد غدا نموذجًا للعارف، وإذا بالرحلة وقد صارت معادلًا للعرفان.

ومن المدهش أن نعلم أن الرحلات المغاربية الصوفية، التي اتخذت الطريق نفسه ـ أو المارّة على تفريعاته وتنويعاته ـ قد تجاوزت خمسًا وأربعين رحلة، توزعت على حقب تاريخية مختلفة، وحملت كلٌّ منها رؤيةً فريدة، غير متكررة، لنصير بإزاء خمسٍ وأربعين تجربة روحية، أسفَرَت عن خمسة وأربعين مؤلَّفًا تأسيسًا من فرائد الكتب، الحافلة بالفكر، والأدب، والمُتخَمة بتوثيق عجائب البلاد والعباد، في خليط من التأريخ والرصد الجغرافي، يؤطره سياق أدبي شعري، مبثوثةٌ في ثناياه فصوص الحكمة وغرائب التأملات.

إن هذا التراث المكتنز الضخم، يحتاج في حدِّ ذاته إلى فِرَقٍ من الباحثين في شتى المجالات، ليعكفوا عليه، تحقيقًا وتوثيقًا وتحليلًا، واستنباطًا للدلالات، وإعادةً لقراءَتِه بعين الراهن المعاصر، في ضوء المتغيرات الآنية، استهدافًا لاستلهامِه وإعادة توظيفه، ضمن مشاريع فنية/ فكرية، لن يُكتَبَ لها الخروج إلى النور، ما لم تحظَ أولًا بدراساتٍ تمهيدية تأسيسية، تضمن لها زادًا معلوماتيًا منضَبِطًا.

 

 

About the Author