!الغريب) أم (اللامنتمي))
يقول الكاتب السعودي عبدالله بن بخيت في كتابه (مذكرات منسية)، متذكرًا بعض ما قد كان من تاريخه الثقافي والمعرفي، ومتحدثًا عن كتابٍ ظهر في فترة من الفترات الثقافية، وشاع في وَسَطٍ كان مرتبطًا به: "أصبح كل همي أن أقرأ كتاب (اللامنتمي). بصراحة أعجبتني كلمة (اللامنتمي).. تركيبتها جديدة وجذابة. لم أترجمها إلى (غير المنتمي) خشية أن أفسد جمالها وتفردها. لم أعرف دلالتها الحقيقية إلا بعد سنوات عندما بدأت أعرف بعض الشيء عن اللغة الإنجليزية. فعرفت أنها مجرد ترجمة طنانة لكلمة (outsider) (الغريب).. الشيء العجيب في الإنسان أنه قادر على أن يخدع نفسه، لمجرد أن احتفظ بوهج الكلمة. لم أبذل أي جهد لتحليل دلالتها. تركتها كما هي أتلمظ بها في المجالس وبين زملائي في المدرسة. وعندما أتكلم تراني بمناسبة وبدون مناسبة أحيل الناس إلى كتاب (اللامنتمي)"!
وقبل أن أنهي قراءة هذا الكتاب الجميل لعبدالله بن بخيت؛ كنت قد اطلعت - في إحدى صفحات التواصل الاجتماعي - على مقال يناقش أحد الموضوعات الفكرية التي يثور النقاش حولها بين حينٍ وآخر. شدني العنوان، ومضيت أقرأ المقدمة في درب سالك، ثم ما لبثت أن تعثرت في المصطلحات التي أخذت تنتشر في جسد المقال انتشار النار في الهشيم. بدا لي المقال ـ أنا القارئ العابر، غير المهتم، وغير المتخصص - مغلقًا لا يفك بسهولة، وجافًا لا ماء فيه، ولقد ضاعت مني أفكاره أو كادت؛ فلا تكاد تستقيم في ذهني فكرة حتى تفاجئني مثل هذه المصطلحات التي أخذت تعمل عمل كواسر السرعة في الشوارع المعبدة أمام سائق يريد الوصول سريعًا إلى وجهته!
لاحظت، بعد أن أنهيت القراءة؛ أنه كان في إمكان الكاتب أن يقول ـ على سبيل المثال - (التَّزَمُّت) أو (التعصب) بدلا من (الدوغمائية)، وأن يُعَبِّر بـ (النفعية) أو (المَصْلَحِية) بدلا من (البراغماتية)، وأن يستبدل (الرجعية) أو (المتطرفة) بـ (الراديكالية)، ولكنه آثر لأمر ما في نفسه أن يستخدم هذه المصطلحات المنحوتة من كلمات أعجمية!
إن حَشْرَ هذه المصطلحات في الكتابات الفكرية العربية الموجهة إلى القارئ العربي العادي؛ يُحيل هذه الكتابات إلى طلاسم وألغاز. لاحظ أنني أقول (حَشْر)؛ وأعني بهذا أنه لم يكن من داعٍ ضروريٍ مُلِحٍّ لاستخدام هذه الألفاظ، وخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. كان في الإمكان التعبير عن المراد بألفاظ عربية يفهمها القارئ العربي بسرعة، دون الحاجة إلى الرجوع في كل مرة إلى العَلَّامة (جوجل) لمعرفة المعنى. لست أدري ما الذي يجعل هذا أكثر إغراء من استخدام المفردة أو العبارة العربية الواضحة!
أظن أن الكاتب العربي الفَذُّ هو الذي يستطيع تبسيط الفكرة الفلسفية العميقة لتفهمها الشريحة الأكبر من الناس، ثم لا بأس أن يتفاوتوا ـ فيما بعد - في التأويل والتحليل في مجالس الكلام، والتنزيل في الواقع العملي، كلٌّ بحسب مستواه الثقافي والاجتماعي. وقد وَجَدْتُ شيئا من هذا (مثلا) عند د.علي الوردي، المؤرخ والمفكر وعالم الاجتماع العراقي المعروف، في كتابيه (خوارق اللاشعور) و (وعاظ السلاطين). فهو في كتابيه هذين يتناول مباحث في علم الاجتماع وعلم النفس بلغة عربية سهلة جميلة، تحبب هذين العلمين المهمين إلى القارئ العربي غير المتخصص أو غير المهتم.
وقد كتبتُ مَرَّةً بأَثَرٍ من المتعة التي وجدتُها عند قراءة كتبه، والحسرة على ما فاتني من القراءة في علم الاجتماع وما قد يفوت غيري - بسبب أسلوب الكتابة العربية لدى بعض المتخصصين العرب في علومهم- هذه التدوينة: "يصرف طالب العلم والمعرفة العربي عن القراءة في بعض العلوم الإنسانية (أحيانًا) قواعدها الرياضية المربكة التي تحيلها إلى ما يشبه العلوم التطبيقية، وعُجْمة المصطلحات المتداولة فيها لا سيما إذا كان أكثر من كتب فيها أعاجم، وجفاف لغة الذين يكتبون فيها من العرب أو ضعف معرفتهم اللغوية.. المجد للعلماء الذين يحبون لغتهم، ويجتهدون في إتقانها، ويكتبون العلوم بلغة عربية أصيلة جميلة!".
About the Author