X638311283768843821

 



Banner-02

الخطاب التاريخي

26 Nov, 2018 |
  • د. علي بن سعيد الريامي - قسم التاريخ - كلية الآداب والعلوم الاجتماعية

يُشكل الخطاب التاريخي متغيرًا مستقلًا لواقع التأثير الذي يمكن أن يحدثه في تشكيل الوعي، والذهنية التي انطبعت عن أحداث مضت من خلال خطاب موّجه مقصود، غالبًا ما يكون مدفوعًا باتجاهات مؤدلجة سياسية أو دينية أو قومية أو وطنية، ليفرض ذلك الخطاب سلطته على الحاضر بهدف تبرير شرعيته، أو حتى على المستقبل لرسم خارطة توجهاته فيما يعرف بعملية صناعة التاريخ، وإعادة تشكيل الهُّويات لخدمة أجندات، وتمرير سياسات.

بالنسبة لكتابة التاريخ في عالمنا العربي؛ ورغم أن هناك أطروحات عديدة تؤكد على: ضرورة الوعي بأهمية التأريخ، وأهمية علمنته والخروج به من عباءة التقليد إلى التجديد، ومن وثنية التقديس والتمجيد إلى التحقيق، غير أن تلك الأطروحات بقيت تدور في فلك حوارات النخبة المثقّفة وهم من الندرة بحيث لا يمكنهم التأثير على الرأي العام، فضلًا عن حالة الإسهال السردي - إن صح التعبير- في الكتابة التاريخية لدينا والتي تعيد إنتاج ما أنتج، وللأسف الشديد ساهمت أقسام التاريخ في جامعاتنا - خاصة في العقد الأخير - في تكريس ذلك الخطاب المستهلك، هذا من جهة ومن جهة أخرى من الواضح أن هناك قيودًا سلطوية تفرض على ما يفترض بحثه ومناقشته باعتبار ذلك ضربًا من المحرمات.

من جانب المتلقي تبدو النظرة التقليدية وخاصة في مجتمعاتنا لا ترى في التاريخ فائدة تذكر عدا التسلية، وهنا يمكن الاستشهاد بمقولة للمؤرخ الفرنسي المعاصر جورج دوبي (Geores Duby): "لنحترس من الخطأ، لقد كانت أول وظيفة للخطاب التاريخي هي التسلية"، مع أنه لو أردنا الرجوع الى الخطاب القرآني سنجد أن الله - عزّ وجل - يخبرنا بوظيفة أكثر فائدة وأهمية للخطاب التاريخي والمتمثل في أخذ العبرة والعظة بغية تصحيح المسارات المستقبلية، كما هو الحال في قصص يوسف وإخوته على سبيل المثال"لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ". والقرآن الكريم - وإن لم يكن كتاب تاريخ - إلا أنه حافل بقصص العديد من الأقوام والشعوب بهدف أن يتفكر الناس في أحوالهم ومعاشهم ومآلهم، شريطة أن يتم تقديم الحدث التاريخي في سياقه الزماني وحدوده المكانية وظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية بشفافية وحيادية وموضوعية.

كان من الطبيعي أن يتغير الخطاب التاريخي في مضامينه وصوره واتجاهاته وموضوعاته مع ظهور المدارس التاريخية الفكرية الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر وما تلاه، بل أنه ومع ثورة البحث عن الهويات، غدا التاريخ سلاحًا ذا حدين: يوظف بطريقة إيجابية عند البحث عن الجوانب المحفزة واكتشاف قوانين التقدم والتقهقر، ويوظف بطريقة سلبية عندما يتعمد تزييف حقائقه لغايات وأهداف ذاتية لا إنسانية، وأحيانًا يتم تكريس خطابه - كما هو الحال بالنسبة للتاريخ الإسلامي ليصبح تاريخًا عبئًا حين يتم اجترار ونبش مراراته الماضية، ويتحول إلى أداة مدمّرة، فالإرث التاريخي إذا لم يحسن توظيفه، وانتفاء ما يعرض منه يتحول إلى كابوس يصعب الفكاك منه، وفي ضوء ذلك يجب الانتباه من الخطاب التاريخي في الجانب السلبي منه، والتعامل معه بحذر، والعمل على فهمه من خلال سياق الواقع بعيدًا عن سلطة الذات، وسلطة السلطة، وسلطة المنظومة المجتمعية بعقائدها وعاداتها وتقاليدها.

وأخيرًا أختم بعبارة أعجبتني كنت قد قرأتها في رواية "1984" لجورج أورويل - النسخة المترجمة - حيث كتب:" من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي". ولعل ذلك يفسر لنا ظاهرة السطو المتعمد والممنهج للتاريخ، والعمل على تقديم خطاب مزيف مغاير للواقع، والخطورة تكمن مع مرور الزمن حين يصبح المزيف هو التاريخ الواقع والتاريخ الواقع هو المزيف، لاسيما في ظل استخدام وسائط عصرية تضمن له سهولة التسويق باحترافية.

 

About the Author