X638311283768843821

 

 


 

 

Banner-02

 

اللغة دليلًا جنائيًّا!

تحقيق: خلود البوسعيدي، فاطمة العجمي

في إحدى حلقات مسلسل الجريمة الأمريكي “مطاردة يونابومبر” (Manhunt: Unabomber)، يقول تيد كازينسكي للمُحقق جيمس فيتزجيرالد: “معظم الناس لا يضعون للغة قيمةً، ولكن ليس أنت…أنت وأنا نُقدّر قوّة الكلمات وخصوصيّتها.”!
فهل يُمكن حقًّا أن تتحقق العدالة عن طريق اللغة؟ وهل تستطيع اللغة سبر أغوار النص والتعرّف إلى هوية صاحبه وصولًا إلى إدانته أو تبرئته؟ يجمع هذا التحقيق قانونيين ولغويين ومختصين، ويبحث في علم يجمع بين منهجية اللغة والقانون ودورهما في كشف تفاصيل الجريمة، ويتحرّى عن مدى حاجة مؤسساتنا إليه، وقوفًا على أسباب تأخر الاستعانة به وضرورة إعداد جيل متمكِّن بأدواته المنهجية من أجل عدالةٍ أظهر!

 

 

المحقق الجنائي والنص اللغوي!


يقول الدكتور راشد بن حمد البلوشي، عميد كلية الحقوق والمُتخصص في القانون الجنائي: “في بعض الأحيان لا يكون أمام المحقق إلا ورقة مكتوبة تركها الجاني خلفه، وهذا غالبًا ما يقع في جرائم التهديد أو قضايا الانتحار، هنا يحاول المحقق أن يقرأ بعض العبارات التي يتميّز بها الخطاب، في محاولة لاستنباط معلومات منه؛ فقد يشتمل الخطاب على مفردات تستخدم في منطقة معينة دون أخرى، وهذا يمنح المحقق مؤشرات أو قرائن تشكل دليلًا. فعلى سبيل المثال، ثمة كلمات تستخدم في محافظة الباطنة دون غيرها، وعندما تظهر هذه الكلمات في نص ما، سنرجح أن من قام بكتابة هذا الخطاب ينتمي إلى هذه المحافظة”.

 

ويقول المحامي نايف القري، المدير التنفيذي لأحد مكاتب الاستشارات القانونية والمحاماة: “ربما تكون هناك مؤشرات على عدم صدق المتهم أثناء التحقيق منها استخدام المتهم لمصطلحات لا يمكن أن تكون مصطلحاته وإنما تم تلقينه إياها ليلقيها أثناء التحقيق، كأن يستخدم مثلا مصطلحات قانونية بحتة لا يستخدمها عادة إلا أهل المجال، والمتهم هنا، من خلال مستوى ثقافته وتخصصه، لا يُتصور معرفته بهذا المصطلح قبل التحقيق”.

ويضيف إليه البلوشي: “إن النص اللغوي قد يمنح المحقّق كذلك دلالات عن عُمر الشخص ومستوى ثقافته، ومستواه التعليمي، وقد يكشف في بعض الأحيان عن جنسه أكان ذكرًا أم أنثى. وفي الجرائم الكبرى، لا يقوم المحقق الجنائي بتحليل النص بنفسه بل يستعين بخبراء من تخصصات مختلفة كعلم الاجتماع أو علم النفس الجنائي”.

ولكن، إلى جانب هؤلاء الخبراء، هل يمكن أن يُشكّل الخبير اللغوي علامة فارقة في حلِّ الجريمة؟

 

اللسانيات الجنائية.. علم حديث!


يُخبرنا المختصون في علوم اللغة عن اللسانيات الجنائية (Forensic Linguistics) أو اللسانيات القضائية كما يميل الأستاذ الدكتور الحواس مسعودي، أستاذ بقسم اللغة العربية وآدابها، إلى تسميته؛ بوصفه علمًا حديثًا! يقول الدكتور: “يدرُس هذا العلم اللغة في إطار تحقيقٍ أو محاكمةٍ لفائدة مصلحة أمنية أو قضائية، ويتمثّل الأمر في دراسة النصوص والتسجيلات من طرف مُحقق. ولم تتضح معالم هذا العلم إلا في تسعينيات القرن الماضي في أمريكا، أما في الدول العربية فمازال هذا العلم في مرحلة الطرح، تسميةً ودراسةً”.

 

ومثلما يبحث المُحقق في البصمة العشرية، وبصمة الوجه، والبصمة الرقمية، فاللسانيات الجنائية تبحث في البصمة اللغوية، التي يُعرّفها الدكتور المسعودي بأنها: “الأثر الذي يسمح للخبرة بالتعرّف على السرقة، أي نسبة التشابه أو الاختلاف بين نصين، وعلى نسبة الكتابات من نوع: رسائل التحرش، التهديد أو الانتحار، القذف والسب، التزوير أو الرسائل القصيرة، طلبات اللجوء السياسي، إلخ”.

ولكن، هل تهتم التحقيقات الجنائية بتحليل “البصمة اللغوية” حتى تُثبت أو تنفي إدانة شخص ما؟

 

البصمة الرقمية والبصمة اللغوية:


يقول الدكتور البلوشي: “إن الاهتمام بالبصمة اللغوية المكتوبة محدود لدينا، أما فيما يتعلق بتحليل الجانب الصوتي فيستخدم في التحقيقات بشكل واسع وتستخدم فيه تقنيات متقدمة، يتمكّن من خلالها المحقق من معرفة الجاني من بين عدد من المُتّهمين، علمًا بأنه قد يتم الاستعانة بخبير لغوي في بعض الجرائم حين يستعصي على المحقق فهم نصٍّ معين، كما في حالة اختلاف اللهجات المحلية مثلًا”.

 

أما الملازم أول يونس بن سالم الحسيني، من المختبر الوطني للأدلة الرقمية ـ شرطة عمان السلطانية، فيُشير إلى تكامل دور البصمة اللغوية مع دور البصمة الرقمية قائلًا: “إننا كمحققي أدلة رقمية جنائية، نواجه تحديات في تحديد هُوية مستخدم الجهاز في كثيرٍ من القضايا؛ حيث يمكن تحديد البصمة الرقمية وإثبات إذا ما تم استخدام الجهاز في الكتابة أم لا، لكن من الصعب جدًّا إثبات ما إذا كان صاحب الجهاز هو من كتب هذا الموضوع الرقمي فعلًا، سواء كان الموضوع مقالًا أو تغريدةً مثلًا، بصورة دقيقة؛ لأن مستخدم الجهاز قد ينكر ذلك!”.

ويُضيف: “في الملف الصوتي قد يستخدم المُحقق بعض التقنيات التي تساعد على تطابق المقطع الصوتي مع صوت المشتبه به في حال الإنكار، لكن في النص المكتوب قد يدّعي المتهم أنه ليس من كتب النص حتى لو كان صادرًا من جهازه!، ومن هُنا تأتي الحاجة إلى هذا النوع من علم الجنائيات ليُثبت تطابق نمط الكتابة مع نمط كتابة صاحب الجهاز أو المتهم، لاسيما أن إثبات النسبة في المقالات والتغريدات في وسائل التواصل الاجتماعي يُمثل تحديًّا، فهناك عدد من القضايا التي تُحال إلى المختبر الوطني للأدلة الرقمية في هذا السياق ولا يُتمكّن فيها من إثبات أن المشتبه به هو من غرّد التغريدة أو نشر المقال، إذ قد يكون استخدم جهازًا غير جهازه، لكنّ وجود علم آخر يُحلل التطابق يمنح مؤشرًا أكبر لإثبات الإدانة أو نفيها”.

إذًا، كيف تقترح اللسانيات الجنائية تحليل النصوص اللغوية؟

 

 

النص اللغوي تحت مجهر التحليل!


يقول الدكتور المسعودي: “تعتمد اللسانيات الجنائية طرائق كثيرة مستمدة من اللسانيات النصية وتحليل الخطاب كـ : تحليل المحادثة، وأفعال الكلام؛ فالأفعال التي ينجزها الخاضعون للخبرة، كالتهديد والتزوير مثلا، يُنظر إليها من حيث سياق إنجازها وليس من حيث بنيتها فقط. وتتمثل الدراسة أساسًا في تتبع ما يميز الفرد وما هو ثابت لديه مثل الجمل من حيث القصر والطول، وطابع الكتابة، والمعجم من حيث الفقر والثراء والأخطاء المرتكبة؛ وهذا كما هو واضح يتطلب معرفة كبيرة بالصرف والتراكيب والدلالة والأسلوبيات والمقاربات الإحصائية والمعلوميات، فتواتر المفردات أو الجمل أو الأخطاء له دور كبير في إثبات النسبة. وقد تنطلق الدراسة من مدونة جاهزة (وثائق معينة) أو من مدونة يكوِّنها الخبير كأن يقوم بجمع الرسائل القصيرة والتغريدات، أو المقابلات الخاصة”.

 

ويشير الدكتور البلوشي إلى أنه في أثناء تحليل النص اللغوي:” لابد من أخذ بيئة المجتمع والثقافة العامة في الحسبان، فنحن مجتمع متعدد اللهجات، كما أن دلالات بعض المفردات قد تختلف من محافظة إلى أخرى، ومن هنا يتعيَّن الانتباه إلى هذه المُحددات جيدًا عند التحليل”.

ويلفت الحسيني النظر إلى أهمية الاستعانة بالجانب التقني في التحليل، إذ يقول: “إن أي علم جنائي يستند إلى مناحٍ علمية وتقنية على أن تكون متَّبعَة بأسلوب منهجي علمي لجمع الأدلة وفحص المعلومات التي تقود في علم الجريمة إلى معرفة سبب وقوع الحادثة؛ فعند تحليل النصوص اللغوية سيعزز إدراج التقنيات الحديثة مثل “تعلّم الآلة” “Machine Learning ” من دقة إثبات أو نفي الدليل، حيث تعد هذه التقنية من التقنيات الواعدة، فقد أثبتت فاعليتها في جوانب عدة مثل التعرف على بصمة الوجه وتحديد حالة الملامح هل هي حزينة أم مستاءة أم سعيدة وغيرها، لذا فإن دمجها في هذا العلم سيُعطي نتائج متقدمة”.

فإذًا، ما الذي نحتاجه لإعداد جيل متمكّن يجمع بين علوم اللغة والقانون والتقنية؟

 

إعداد اللساني الجنائي!


يقول الدكتور المسعودي: “يحتاج هذا الفرع من اللسانيات إلى تكوينٍ جامعي وإلى تنسيق مع العدالة لأنها في حاجة إلى خبراء لغويين يفكّون شفرات رسائل كثيرة لفظية وكتابية؛ ولهذا نلاحظ في السنوات الأخيرة كثرة الجامعات الصيفية في الغرب في شكل دورات في اللسانيات القضائية. يشتمل التكوين، سواء كان قصيرًا أو طويل المدى، على معرفة اللغات واللهجات والتحليل الفونولوجي وأنواع الكتابات والخطوط، ومبادئ في المصطلحيات والسرقة الأدبية والدلاليات والأسلوبيات وطرائق التعرّف على المؤلفين وعلى تحليل المحادثات وعلى مبادئ في الإحصاء والمعلوميات”.

 

وإذ يشير القري إلى أهمية إعداد كادر مدّرب ومتقن لأدوات هذا العلم “نظرًا لحساسية النتائج التي ترتجى من تطبيقه حتى لا يتم تجريم الأشخاص بشكل غير دقيق”، يتفق الحسيني والبلوشي على الحاجة إلى تطبيق هذا العلم بصورة منهجية في المؤسسات المعنية بالسلطنة، إذ ثمة قضايا كثيرة تمرّ على المحققين ويصعب إدانة المتهم فيها؛ ومن ثمّ يُمكن أن تُساهم الاستعانة باللسانيات الجنائية وإثبات البصمة اللغوية في “استخراج قرائن إنْ لمْ يكن أدلة تساعد المُحقق وتساعد القاضي في إصدار الحكم!” كما يؤكد الحسيني.

وشاهدًا على إحدى هذه القضايا يتحدث البلوشي: “ثمة قضية في إحدى الولايات كُيِّفت على اعتبار أنها انتحار، اعتمادًا على: طريق الوفاة، ورسالة كتبتها المنتحرة، رغم أن الرأي العام كان يعتقد أن الضحية كانت مقتولة! لقد صرحت المنتحرة برغبتها في التخلص من نفسها لمشاكل تعرضت لها، ولكن هل كانت هي من كتب الرسالة؟ من خلال الرجوع إلى أوراق قديمة لها تمت مطابقة الخط وإثبات نسبته لها.. لكن يبقى السؤال الأهم؟ أيمكن أن تكون قد كتبت الرسالة تحت وطأة التهديد بالسلاح! الرجوع لمثل هذه القضية وتحليل النص من مختلف النواحي اللغوية قد يكشف عن ملابسات أخرى ويغيِّر الحكم، فقد تكون المفردات والأساليب اللغوية التي استعملتها الضحية تحت التهديد مختلفة عن المألوفة في استخداماتها الطبيعية، كرسم الخط من حيث الثبات والرجفة وغيره!”.

غير أن السؤال الجوهري الذي نطرحه الآن..

 

لماذا تأخرت الاستعانة؟!


يُرجع الدكتور راشد أسباب تأخر الاستعانة باللسانيات الجنائية إلى قلة الوعي بأهمية هذا النوع من العلوم في الحقول القانونية وعدم الاطلاع على المستجدات العلمية، ويضيف إليه الحسيني أن “اللسانيات الجنائية علم جديد مقارنة بالعلوم الجنائية الأخرى وسيحتاج وقتًا للاطلاع عليه وتطبيقه”.

 

أما الدكتور المسعودي فيقول: “إن العالم العربي، حسب علمنا، متأخر جدًّا في هذا المجال، حتى أوروبا تُعد متخلفة مقارنة بأمريكا؛ إذ لم يظهر هذا التخصص بشكل جلي في فرنسا إلا في حدود عام ٢٠١٠م، بسبب عدم استعانتهم بالخبراء اللغويين لحلِّ بعض الإشكالات القانونية؛ إذ كان يُستعان بهم كشهود وليس كخبراء بينما يُستعان بهم في المجال الأنجلوساكسوني دومًا كخبراء مهما كانت تخصصاتهم لأنهم يعتمدون نظام القانون العام حيث يعود الحكم إلى القضاة”.

ويضيف: “لا أثر في عالمنا العربي لتعاملٍ مؤسَّسٍ بين العدالة والأجهزة الأمنية والخبراء اللغويين. وأما على المستوى العلمي فلا نكاد نعثر إلا على بعض المقالات التي لا تؤسس لبداية طموحة على الرغم من توفر ترجمة جيدة منذ عام ٢٠٠٨م لكتاب جون أولسون (Forensic Linguistics: An Introduction to Language) من طرف محمد الحقباني! ولتدارك الوضع نحن في حاجة إلى التفكير في برامج جامعية خاصة لتكوين لسانيين قضائيين يسندون العدالة في حل الكثير من المشكلات التي ظهرت نتيجة التطور الطبيعي لمجتمعاتنا في ظل ما نشهده من تعقيد في حياتنا اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًّا”.

فهل ستشهد “اللسانيات الجنائية” اهتمامًا من مؤسساتنا تحقيقًا للعدالة؟

 

 

About the Author