لم يتخيَّل المهندس الإنجليزي الشاب أنه سيزور سلطنة عُمان، أو يمكث يومًا في درجة حرارة تتخطى الـ 45 أحيانًا وهو الذي ألّف الجو اللندني لكنه عاش في السلطنة ليس يومًا أو شهرًا ولا حتى سنة بل 5 سنوات كاملة، يعتبرها علامة مضيئة في مشواره العملي، ولا يزال يرفع “القبعة” لذكرياته مع أسرته بها.. إنه المهندس بيرون واتسون رئيس فريق التصميم الهندسي وكبير المهندسين في بناء جامعة السلطان قابوس، التي يراها أهم مشروع في مسيرته المهنية. واتسون زار الجامعة بعد 33 سنة من افتتاحها؛ لننتهز الفرصة ونطلب منه إعادة تشييد ذكرياته في بناء جامعة السلطان قابوس وقد كان..
كبير المهندسين
ـ نود أن نعيش معك مرحلة البدايات الخاصة ببناء الجامعة فما الذي حدث في تلك المدة؟
“كنت أعمل في الثمانينيات مهندسًا بشركة الأسمنت الدولية، وهي شركة هندسية مقرها في المملكة المتحدة، وقامت الشركة بترشيحي كرئيس لفريق التصميم الهندسي في 1981م، وعملت مع المهندسين المعماريين في شركة “واي آر أم الدولية” على التصميم المدني الهيكلي للبنية التحتية والمباني بالجامعة. وفي 1983 اختارتني الشركة لأتولَّى منصب كبير المهندسين في مجال البناء في أعمالها بسلطنة عمان، كلُّ ما أحمله في ذاكرتي هو أن العمل كان شديد الصعوبة”.
صعوبات وذكريات
ـ ما وجه الصعوبة؟
“تمّ تخصيص بيت من بيوت الموظفين لي، لكن من المؤسف أن أسرتي لم تتمكَّن وقتها من الحضور للسلطنة والعيش معي إلا في أيام العطلة المدرسية، وذلك بسبب نظام الدراسة في لندن، ولدى ابنتيَّ ذكريات جميلة خلال وجودهما السريع بعُمان أثناء الإجازة الدراسية، ففي أيام الجمعة كنا ننطلق في رحلات استكشافية إلى المناطق الداخلية، إلى نزوى والجبل الأخضر، وفي بعض الأحيان كنت آخذ إجازة من عملي لمشاهدة السلاحف في أماكنها الطبيعية والتخييم تحت النجوم، كنا نملك حياة اجتماعية نشطة في النادي، لكن العمل المجهد خلال إنشاء الجامعة كان يجعلني لا أشارك في كل الفاعليات، فكنت أنام مبكرًا”.
40 مهندسًا
ـ ماذا عن فريق المهندسين الذي عمل معكم؟
“كان لدي فريق من المهندسين من ذوي الخبرة من المملكة المتحدة ومن جنوب القارة، وفي وقت الذروة، كان يوجد 40 مهندسًا تقريبًا في كل جهة من البناء مثل البنية التحتية، والكليات، والمساكن الطلابية، ومساكن الموظفين. وكان من أول الأشياء التي يجب علينا القيام بها هو بناء منازل مؤقتة للموظفين المغتربين ومعسكر لـ 1100 شخص تقريبًا من الأيدي العاملة. كان أغلب العمال من العُمانيين، ولكن كان هناك أيضًا عدد من الحرفيين التايلنديين، أتذكر أنهم كانوا قلقين جدًّا من تأثر جلودهم بالجو الحار لدرجة أنهم كانوا يرتدون الأقنعة!”.
تحديات
ـ حدثنا عن التحديات التي واجهتكم أثناء بناء المشروع؟
“كان أحد التحديات الرئيسة هو إنتاج الخرسانة وتثبيتها في جو شديد الحرارة. تنص المواصفات القياسية للخرسانة في المملكة المتحدة على أنه يجب عدم صبِّ الخرسانة في درجات حرارة تزيد على 33 درجة مئوية، بينما كانت درجة الحرارة في فصل الصيف في الموقع تزيد على 40 درجة مئوية وفي بعض الحالات تصل إلى 50 درجة مئوية! لذا كان يجب إنتاج الخرسانة في مصنع الخلط، وتوصيلها إلى الموقع وصبها في القوالب دون تصلب سابق لأوانه أو فقدان القوة؛ لقد تم حلّ هذه الصعوبة من خلال مزيج أعدَدناه خصيصًا من مواد مضافة وثلج في شاحنات التسليم، وقمنا برش سطح الخرسانات برذاذ خفيف مما أدى إلى انخفاض درجة الحرارة بعدة درجات وجعل مهمة مجموعة صبِّ الخرسانات أكثر متعة، إن جودة الخرسانة المكشوفة في مباني الكليات هي دليل على نجاح عملياتنا لصب الخرسانات، وقد سررت جدًّا برؤية أنه بعد كل هذه السنوات لا يزال صامدًا بحالة جيدة”.
ـ هل من تحديات أخرى؟
“نعم كان هناك تحدٍ آخر واجهناه، إذ ظهر بعد إكمال نسبة كبيرة من سكن الموظفين وسكن الطلبة فقط، لم نتوقع أننا سنواجه تصدعًا في جدران المباني، وعندما تحققنا، تبيّن أن طين “المونتوموريلايت” كان يتسرب، وذلك الأمر الذي لم ننتبه إليه في تحقيقنا المبدئي للموقع، يمكن لهذا الطين أن يمتد للغاية عندما يتبلل حتى أنه يمكن أن يرفع الجدران عدة سنتيمترات! وكان علينا على الفور اتخاذ تدابير لتخفيف آثار هذا التوسع؛ لذلك قمنا بالتحكم الدقيق في الرّي بالقرب من المباني ووضع التربة في غشاء مقاوم للماء”.
صحراء قاحلة
ـ أخبرنا المزيد عن مشروع بناء الجامعة وسير العمل فيه؟
“كان مشروع الجامعة أكبر عقد يُمنح لمقاول بريطاني، وعند وصولي، كان الموقع مجرد صحراء قاحلة، وتمَّ اختيار محور المركز الأكاديمي لمحاذاة وادي ضحل، ووافق المقاول على برنامج تشييد صعب للغاية من أجل افتتاح الجامعة بحلول عام 1986م؛ لذا كان علينا أولًا إنشاء أماكن إقامة ومكاتب لموظفي الهندسة والعمال في المشروع. بعد ذلك بدأنا في إنشاء الطرق، والبنية التحتية، وأول البنايات التي تم إنشاؤها كانت منازل الموظفين ونادي الموظفين وقد تم تصميم المركز الأكاديمي بطريقة إسلامية حديثة، وشيدت المباني في الخرسانة المسلحة مع ممرات ذات أعمدة لتوفير التظليل. وتضمن التصميم انضباطًا صارمًا لتسهيل بناء وحدات تمكّن المقاول من تشييدها بأقصى سرعة وكفاءة”.
مسيرة متميزة
ـ إن كنت ستكتب كلمة في سجل زيارات الجامعة.. ماذا ستكتب فيها؟
“سأكتب إن عملي في تشييد الجامعة هو أكثر ما يميز مسيرتي رغم التحديات والمطالب الفنية التي واجهناها، وكأسرة فإننا ننظر إلى ذلك الوقت بحنين كبير متذكرين جمال البلد ونزهاتنا إلى أماكن مثل نزوى وجبل شمس، وأيضًا إعجابنا بالأشخاص الودودين الذين قابلناهم، نحن نتطلع إلى العودة ورؤية التحول الرائع الذي حققته الجامعة منذ أن مشيت فيها لأول مرة كصحراء قاحلة لموقع البناء!”.