X638311283768843821

 

Banner-02

 

الركائز السوسيولوجية للتماسك الأكاديمي في الجامعة

21 Dec, 2025 |

 

  • بقلم: الدكتور جهاد بن جميل حمد، أستاذ علم الإجتماع المشارك.

 

في قلب أي مؤسسة تعليمية عريقة، وخاصة الجامعية منها، لا تقوم المنظومة فقط على المباني الحديثة والمناهج المتطورة والمختبرات المتقدمة، بل يقوم عصبها النابض والأكثر حيوية على النسيج الاجتماعي الذي يربط بين أعضاء هيئة التدريس. هذا النسيج، إذا ما تم حياكته بخيوط من القيم المهنية الراسخة، يصبح حجر الزاوية في بناء بيئة أكاديمية منتجة، مبدعة، ومستدامة.

وهنا، تشكل الجامعة، في التحليل السوسيولوجي، نسقاً اجتماعياً فرعياً يضم شبكة معقدة من العلاقات والتفاعلات. ولا تقتصر مهمتها على إنتاج المعرفة ونقلها فحسب، بل تتعداها إلى خلق "ثقافة أكاديمية" تحدد هويتها وفعاليتها. وهنا، يشكل أعضاء هيئة التدريس العمود الفقري لهذا النسق، حيث تُعد طبيعة العلاقات الاجتماعية بينهم عاملاً حاسماً في تحقيق الرسالة الجامعية.

في جامعة السلطان قابوس، كمثال رائد للتعليم العالي في سلطنة عمان، تبرز أهمية هذا النسيج ليس كمسألة ترفيه، بل كضرورة استراتيجية لتحقيق رؤية الجامعة في "التميز في التعليم والتعلم والبحث العلمي وخدمة المجتمع". وفي هذا السياق، تتميز الجامعة كنموذج يحتاج إلى تأمل علمي للكيفية التي يمكن من خلالها تعزيز رأس مالها الاجتماعي والثقافي الداخلي، عبر ترسيخ علاقات قائمة على أسس أخلاقية ومهنية رصينة.

الركائز النظرية، من الفردانية إلى المجتمع المهني التضامني

تشير الأدبيات السوسيولوجية، خاصة أعمال إميل دوركهايم حول التضامن العضوي، إلى أن التخصص المهني (كالتدريس الجامعي) لا يؤدي تلقائياً إلى التكامل، بل قد يقود إلى الفردانية والعزلة إذا لم يقترن بوعي جمعي وأخلاق مهنية مشتركة. كما تؤكد نظرية "رأس المال الاجتماعي" لبيير بورديو Bourdieu وجيمس كولمان Coleman شبكات الثقة والمعايير المشتركة والقيم المتقاسمة داخل الجماعة المهنية تزيد من فعاليتها وتقلل من تكاليف التعامل، ما ينعكس إيجاباً على الإنتاجية العلمية والابتكار التربوي.

في البيئة الأكاديمية، يتحول هذا الرأس المال الاجتماعي إلى داعم رئيسي للصحة النفسية للأستاذ الجامعي، ويخفف من ضغوط "نشر أو أبعد"[1] والأعباء الإدارية المتزايدة، كما يخلق بيئة آمنة للنقاش العلمي الخلاق.

تحليل الركائز الأساسية للعلاقات الأكاديمية الصحية

  1. الاحترام والتقدير والتعاون الأخوي:  يمثلون الجوهر العاطفي والمعياري للعلاقات. ان الاحترام المتبادل، بغض النظر عن الرتبة الأكاديمية أو الخلفية البحثية، يكرس مبدأ المساواة في القيمة الإنسانية. وايضا التقدير للجهود، وليس فقط للنتائج، يعمل على تحفيز الاستمرارية بالعمل. أما التعاون الأخوي الذي يتجاوز الشكليات الإدارية فيعني المشاركة الحقيقية في المشاريع البحثية، وتقاسم المصادر، والدعم في أوقات الشدة، مما يعزز الانتماء للجماعة الأكاديمية ككل.
  2. احترام الأنظمة والمؤازرة الأخوية: قد يبدو الأمر تناقضياً، لكن الفعالية تكمن في الجمع بينهما. فاحترام قوانين العمل يضمن العدالة والشفافية ويحد من الصراعات والوساطة. أما المؤازرة الأخوية، فتملأ الفراغ الإنساني الذي قد تتركه الأنظمة الجامدة، من خلال تقديم الدعم المعنوي والمشورة غير الرسمية، خاصة للزملاء الجدد أو الذين يمرون بأزمات شخصية.
  3. الحفاظ على سرية المعلومات والابتعاد عن فرض الرأي: هما ركيزتان لاستقلالية الفكر وسلامة البيئة الداخلية. سرية المعلومات المتعلقة بالبحوث قيد الإعداد، أو بخصوصيات الزملاء، أو بنتائج التقييمات، تبنى جدار ثقة عالياً. وفي المقابل، احترام تعدد الآراء وتجنب فرض الرؤى الواحدة، خاصة من قبل ذوي الرتب الأعلى أو النفوذ الأكبر، يحمي التنوع الفكري الذي هو أساس الإبداع الأكاديمي.
  4. محاربة التنمر الأكاديمي واستغلال العلاقات: يمثلان الجانب السلبي الذي يجب تطهير البيئة منه. التنمر الأكاديمي (السخرية من الأفكار، الانتقاد الهدام، التهميش المتعمد، استغلال المشاكل/القضايا الشخصية) يقتل الثقة ويقود إلى الصمت الإبداعي. كما ان استغلال العلاقات الشخصية مع الطلاب، سواء لمكاسب غير أخلاقية أو لتهميش زملاء آخرين، يشوه قدوة الأستاذ وينتهك النزاهة والكرامة الأكاديمية (Academic Integrity) التي هي حجر الزاوية للمؤسسة الجامعية. النزاهة هنا تتجاوز عدم الانتحال إلى الالتزام بالعدالة والموضوعية في كل التعاملات.

جامعة السلطان قابوس: نحو خارطة طريق لتقوية الرأسمال الاجتماعي

كجامعة رائدة، تمتلك جامعة السلطان قابوس البنية التحتية والقيم المؤسسية التي تمكنها من أن تكون نموذجاً في هذا المجال. ويمكن تعزيز ذلك عبر:

  • تفعيل دور الوحدات الاجتماعية: تعزيز دور الأقسام والوحدات ، وعلى سبيل المثال لا الحصر، في قسم علم الاجتماع والعمل الاجتماعي وغيره في تنظيم ورش عمل وحلقات نقاشية (سيمنارات) تستند إلى الدراسات السوسيولوجية، لتحويل المبادئ المجردة إلى ممارسات يومية.
  • تأسيس "نوادي أكاديمية" غير رسمية: تشجيع تكوين مجموعات نقاش أو اهتمامات مشتركة (قراءة، بحوث مشتركة) خارج الإطار الإداري، لبناء علاقات عضوية.
  • نظام توجيه مؤسسي (Mentoring) فعّال: نظام لا يقف عند نقل المعرفة الإدارية، بل يهدف أيضاً إلى دمج الزملاء الجدد في الشبكة الاجتماعية الأكاديمية ونقل الثقافة المهنية الإيجابية إليهم.
  • وضع مدونة سلوك مهني واضحة ومتفق عليها: يتم صياغتها بمشاركة واسعة من أعضاء الهيئة التدريسية، تركز على الجوانب العلاقاتية والأخلاقية وليس فقط الإجراءات التأديبية، وتكون مرجعية عند حل النزاعات.
  • الاعتراف المؤسسي بالقيمة الاجتماعية: أن تدرك إدارة الجامعة وتكافئ بشكل رمزي أو مادي المبادرات الجماعية والأعمال التعاونية التي تعزز روح الفريق والبيئة الإيجابية.

خاتمة

العلاقات الاجتماعية الإيجابية بين أعضاء هيئة التدريس ليست ترفاً ثانوياً، بل هي استثمار استراتيجي في رأس المال البشري والمؤسسي للجامعة. إنها الدرع الواقي من الاحتراق الوظيفي، والمحرك الخفي للإبداع العلمي، والتربة الخصبة التي تنمو فيها أجيال من الطلاب على قيم التعاون والنزاهة. بوضع إطار سوسيولوجي واضح لهذه العلاقات، وتبني سياسات واعية لتعزيزها، تستطيع مؤسساتنا الأكاديمية، أن تخطو خطوة جوهرية من كونها جامعات /مصادر علمية متميزة ومتنوعة الهوية التخصصية، والعلمية، متضامنة في السعي نحو المعرفة، ومتحدة في خدمة المجتمع.

 

المراجع

  • Durkheim, E. (1893). The Division of Labor In Society.
  • Bourdieu, P. (1986). The Forms of Capital. In J. Richardson (Ed.), Handbook of Theory and Research for the Sociology of Education (pp. 241-258). Greenwood.
  • Coleman, J. S. (1988). Social Capital in the Creation of Human Capital. American Journal of Sociology, 94, S95-S120.
  • Tierney, W. G., & Lanford, M. (2016). Culture in Higher Education. In M. B. Paulsen (Ed.), Higher Education: Handbook of Theory and Research (Vol. 31). Springer.

 


[1] علامات وأعراض ضغوط العمل

قد لا تنتبه في غمْرة العمل، إلا أنّك تعاني من ضغوط العمل. وهذه بعض العلامات والأعراض التي تنذر بأنك تعاني منها بحسب المؤسسة الأمريكية للضغط: (الشعور بالقلق، أو العصبية - أو الاكتئاب، اللامبالاة - والخمول وفقدان الاهتمام بالعمل - مشاكل في النوم الإعياء-  صعوبة التركيز - توتر العضلات أو الصداع - مشاكل في المعدة - الانطواء الاجتماعي - مزاج مكتئب - فقدان الثقة، أو الشعور بالغضب وتعكُّر المزاج - زيادة أو فقدان الوزن - جَرْش الأسنان Teeth grinding  - نوبات الهلع - تعرّق اليدين أو القدمين الغثيان - الوسواس القهري).

About the Author