X638311283768843821

 

الإرشاد المدرسي وتعزيز الصحة النفسية: دروس من النموذج العماني

14 Oct, 2025 |

 

بقلم: الدكتور جهاد بن جميل حمد،أستاذ علم الإجتماع المشارك.

 

من الفرد إلى المنظومة

تشهد مرحلة الطفولة والمراهقة في عالمنا المعاصر تحولات غير مسبوقة، تفرضها رياح العولمة العاتية والتطور التكنولوجي المتسارع، إضافة إلى تغير بنى الأسر واتساع الفجوات الاجتماعية والاقتصادية. هذه العوامل مجتمعة تخلق بيئة معقدة تهدد الصحة النفسية للنشء، وتحد من قدرتهم على اكتساب مهارات الحياة الأساسية، مما يستدعي تطوير استراتيجيات استباقية لتعزيز المرونة النفسية والتفكير النقدي لدى الأجيال الجديدة. وفي خضم هذا المشهد، يبرز النموذج العُماني في الإرشاد المدرسي كنموذج فريد، يستلهم مقوماته من الموروث الاجتماعي والثقافي الأصيل، مع الانفتاح على آليات الحوكمة الحديثة. هذا التكامل بين الأصالة والمعاصرة هو ما سنسلط الضوء عليه في هذه المقالة، من خلال تحليل سوسيولوجي يستشرف آفاق المستقبل.

من النموذج الفردي إلى الرؤية المنظومية

لطالما اعتمد الإرشاد المدرسي التقليدي على النماذج النفسية الفردية، التي تركز على العمليات النفسية الداخلية للطالب. ورغم أهمية هذه النماذج، إلا أنها غالباً ما تغفل حقيقة بالغة الأهمية: أن الصحة النفسية للفرد ليست نتاجاً لعوامل داخلية فحسب، بل هي محصلة لتفاعله مع شبكة معقدة من العوامل الاجتماعية والثقافية والمؤسسية المحيطة به.

إن الإفراط في التركيز على الجوانب الفردية قد يؤدي – دون قصد – إلى "تطبيب" مشاكل هي في جذورها اجتماعية. فقلق الطالب، على سبيل المثال، قد لا يكون مجرد اضطراب داخلي، بل قد يكون استجابة طبيعية لتمييز منهجي أو فقر أو مناخ مدرسي غير داعم. وهذا يستلزم نقلة نمطية في عمل المرشد المدرسي school counselor، من كونه مقدم خدمات فردية إلى فاعل في التغيير الاجتماعي المنظومي.

النموذج العُماني - استلهام الموروث ومواكبة العصر

تتميز التجربة العُمانية بثراء فريد، يجعلها "مختبراً حياً" لدراسة تكامل البنى التقليدية مع أنظمة الحوكمة الحديثة. ويقوم هذا النموذج على عدة مرتكزات أساسية:

  1. مبدأ الولاية (Wilāyah): وهو مفهوم إسلامي أصيل يستمد جذوره من القرآن الكريم، ويؤكد على علاقة الحماية والرعاية المتبادلة بين أفراد المجتمع. وهذا المبدأ يشكل الأساس الثقافي للتعاون الرسمي والعمل الجماعي في مجالي الصحة والتعليم.
  2. التضامن القبلي (ʿaṣabīyah): كمصدر مهم لرأس المال الاجتماعي، يلعب هذا المفهوم دوراً محورياً في تشكيل الهوية العُمانية والديناميكيات الاجتماعية، مما يجعله رافداً أساسياً لأنظمة الدعم المجتمعي.
  3. الحوكمة الحديثة (مجلس الشورى): الذي يمثل قناة رسمية لتقديم الخبرات في مختلف الشؤون، بما فيها الإصلاحات التعليمية والمجتمعية، متجذراً في تقليد الشورى الإسلامي.
    4. رؤية عُمان 2040: التي تضع الصحة الشاملة والتعليم والحماية الاجتماعية في صلب أولوياتها، مما يوفر الإطار السياسي والتمويلي للتدخلات المنظومية.

استراتيجيات تحويلية للإرشاد المدرسي

يقتضي تبني الرؤية السوسيولوجية تطوير استراتيجيات تحويلية في العمل الإرشادي، نستعرض أبرزها:

  1. الانتقال من التقييم الفردي إلى التقييم السياقي: وذلك باستخدام أدوات مثل الخرائط البيئية (ecomaps) التي تتيح فهم النظام البيئي الاجتماعي الكامل للطالب. كما يتطلب ذلك التحول من الكفاءة الثقافية السطحية إلى "التواضع الثقافي"، الذي يعني الاستكشاف المستمر لتحيزات المرشد الثقافية، والعمل النشط على تقليل الفجوة في ميزان القوة في علاقة الإرشاد.
  2. بناء شراكات مجتمعية فاعلة: من خلال إضفاء الطابع الرسمي على مبدأ الشورى في هياكل صنع القرار المدرسي، وإشراك قادة المجتمع وشيوخ القبائل والشخصيات الدينية – كوكلاء موثوقين – في حوكمة المدارس وتطوير برامج الصحة النفسية. وهذا يتوافق تماماً مع التأكيد الوطني في عُمان على الشورى والشراكات بين الدولة والمجتمع.
  3. توظيف الإرشاد الجماعي بمنظور سوسيولوجي: بتنظيم مجموعات حول السياقات والتحديات الاجتماعية المشتركة، والاستفادة من الهوية العُمانية المشتركة والسرديات الوطنية والقيم الإسلامية (كالتعاطف والامتنان والمسؤولية المجتمعية) لبناء التضامن والمرونة بين الطلاب.
  4. بناء القدرات الهيكلية وثقافة الدعم: من خلال إعادة صياغة الصحة النفسية في إطار الرفاهية الإسلامية الشاملة، ومواءمتها مع المبادئ الإسلامية للرعاية المتكاملة للجسد والروح. وهذا يسهم في تحدي المعاني الاجتماعية الراسخة التي تربط المرض النفسي بالضعف الإيماني، مما يقلل من الوصم ويزيد من مشاركة المجتمع.
  5. تعبئة الشبكات المجتمعية: من خلال تفعيل مفهوم "العصبية" (التضامن القبلي) وتحليل رأس المال الاجتماعي الموجود في الشبكات التقليدية. ويتضمن ذلك تحديد شخصيات رئيسية موثوقة داخل الشبكات العائلية أو القبلية لتدريبهم كمرشدين غير رسميين أو مناصرين للصحة النفسية.
  6. الدعوة لسياسات الإصلاح: حيث يتحتم على المرشدين تبني دور المناصر للعدالة الاجتماعية، باستخدام البيانات حول المحددات الاجتماعية (كالفقر وتفاوت الموارد) للتأثير على السياسات التعليمية والمجتمعية. ويوفر مجلس الشورى في عُمان قناة رسمية مقبولة ثقافياً لهذا النوع من الدعوة الهيكلية.

تحديات واعتبارات أخلاقية

رغم أهمية هذه الاستراتيجيات، إلا أن تطبيقها يواجه تحديات جوهرية، أبرزها:

  • فجوة التدريب: حيث تفتقر برامج إعداد المرشدين في كثير من الأحيان إلى التأصيل السوسيولوجي العميق.
  • قيود الموارد: من حيث ضعف التمويل وكثرة الأعباء الإدارية، مما يعيق العمل المنظومي.
  • المقاومة المؤسسية: الناتجة عن القصور الذاتي للتسلسلات الهرمية التقليدية في المؤسسات التعليمية.

كما تبرز اعتبارات أخلاقية مهمة، مثل كيفية الموازنة بين سرية المعلومات الفردية والنموذج الذي يستند على العمل الجمعي collective- وايضا الحاجة إلى معالجة الظلم المنظومي، وإدارة ديناميكيات القوة في مجتمع عالي السياق كالمجتمع العُماني.

على الرغم من بقاء تحديات كبيرة تتعلق بالتدريب والموارد والقدرة المنظومية، فإن الطريق إلى الأمام واضح. مرشدو المدارس، عندما يتم تجهيزهم بالبصيرة السوسيولوجية والكفاءات الهيكلية، هم في وضع فريد للانتقال من مقدمي الخدمات السلبيين إلى وكلاء أقوياء للتغيير الاجتماعي.

من خلال الانخراط النشط مع العالم الاجتماعي للطفل والتجاوز عن العلاجات الفردية الضيقة، يمكن للمهنة أن تعزز بنجاح سياقات اجتماعية عادلة وداعمة وتمكينية لجميع الطلاب، محققة الوعد الأوسع للصحة النفسية المدرسية.

خاتمة وتوصيات

يشكل النموذج العُماني ، يبرز كيف يمكن للتمازج بين رأس المال الاجتماعي التقليدي وآليات الحوكمة الحديثة أن يخلق بيئة داعمة للصحة النفسية ومهارات الحياة.

يقدم النموذج العماني في الإرشاد المدرسي نموذجاً ملهماً، الذي يتميز بالتآزر بين رأس المال الاجتماعي التقليدي (الولاية والعصبية) وآليات الحوكمة الحديثة، مخططًا مقنعًا. حيث تكمن قوته في إظهار كيف يمكن إضفاء الطابع الرسمي على التدخلات الهيكلية المتجانسة ثقافيًا، والاستفادة من ثقة المجتمع الموجودة مسبقًا للتغلب على الحواجز المنتشرة مثل الوصم والمقاومة المؤسسية. ولا يقتصر نجاح هذا النموذج على سياقه المحلي فحسب، بل يقدم دروساً قيمة يمكن الاستفادة منها في سياقات عربية وإسلامية أخرى.

ولتعزيز هذا النهج، نوصي بما يلي:

  1. تطوير برامج إعداد المرشدين لتشمل مقررات معمقة في السوسيولوجيا والمنظور المنظومي.
  2. تعزيز التعاون بين المؤسسات التعليمية والمجتمعية لخلق شبكات دعم متكاملة.
  3. توظيف البحث العلمي لتقييم فاعلية الاستراتيجيات السوسيولوجية في السياق العُماني.
  4. الاستمرار في الدعوة للسياسات التي تعالج المحددات الاجتماعية للصحة النفسية.

إن الانتقال بالإرشاد المدرسي من نموذجه الفردي التقليدي إلى النموذج المنظومي المستند إلى الرؤية السوسيولوجية، ليس رفاهية أكاديمية، بل هو ضرورة ملحة لمواجهة تعقيدات العصر، وتمكين النشء من أدوات النجاح في الحياة.

About the Author