- سعود بن سلطان بن محمد العبري، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية.
في عالم اللغة، ثمّة فجوة لا يردمها الحرف مهما بلغ من الدقّة والعمق، فجوة بين ما نشعر به وما نقوله، بين ما نقوله وما يُفهم، وبين ما يُفهم وما يُفسّر. هذا القلق الذي تنطوي عليه العبارة:
“وهل سيُقال كما أشعر به؟ أم سيُفسَّر كما لا أريد؟” إنه ليس قلقًا لغويًا فحسب، بل خوفٌ من خيانة الشعور حين يُترجم، ومن تحريف المعنى حين يُستقبل. إنها صرخة الإنسان الذي يكتب، يتكلم، يحب، يبرّر، يبوح، ثم يُحاكم على تأويل لا يشبهه.
أن تشعر، فذلك امتياز الوجود الداخلي، ذلك الذي لا يطالُه أحد.
لا أحد يراك وأنت ترتجفُ من أثر كلمة، أو تُزهِر من لَمسة، أو تنهار من نظرة. الشعور مساحة مُقدّسة لا يدخلها سواك، ولهذا يكون التعبير عنه نوعًا من المجازفة. لأنك حين تحاول أن تُلبسه لغة، فأنت تبدأ في فقدانه.
ربما كتبتُ ثم محوتُ، وربما راجعت الجملة خمس مرات لتطمئن أن كل شيء كما تشعر. لكنك تعلم، في أعماقك، أن لحظة خروجها منك ستبدأ رحلتها في الفهم حسب الآخر. أنت ترى في كلماتك ظلّ قلبك، أما الآخر، فربما يرى فيها ظلّ تجربته، ذاكرته، آلامه، أو سوء ظنّه. وهنا تتشظّى الحقيقة. ليس لأنه يريد أن يُسيء الفهم بالضرورة، ولكن لأن التفسير ليس ملكًا لأحد. إنه انعكاس مشترك للمرآة التي نرى بها الأشياء.
ربما هذا هو مأزقنا الأعمق: نحن لا نُفهَم كما نحن، بل كما يرى الآخر. لا نُقرَأ كما كُتبنا، بل كما شُكّل الآخر. كل كلمة نقولها، تمرّ أولًا عبر ذاكرته، ماضيه، مخاوفه، ظنونه.
الفهم الخاطئ زلّة، لكن التفسير القاطع جريمة فكر.
حين يُبنى على كلماتك حكم، أو تأويل، أو موقف، يُحاصرك، يحوّلك من صاحب مشاعر إلى متّهم. قالت ما قالت، إذًا فهي تقصد كذا.
كتب ما كتب، إذًا فهو يعترف بكذا. لا يسأل:
هل ما قاله يطابق ما يشعر به؟ هل ما فهمته هو ما قصده؟
لأننا نحبُّ الوضوح، والوضوح أحيانًا كذبة كبيرة تُطمئننا، ولو على حساب الحقيقة.
يختار البعض الصمت، لا لأنه لا يشعر، بل لأنه لا يريد للمشاعر أن تغتال على ألسنة من لا يفهمونها، أو في قلوب من لا يعرفون كيف يصغون.
ربما لا سبيل للهروب من هذه الخيانات الثلاث. كلّ ما نستطيع فعله هو أن نحاول. نحاول أن نقول بصدق، وأن نُصغي بتواضع، وأن نفسّر برفق. أن نُدرك أن ما قيل لا يساوي دائمًا ما قُصد، وأن ما فُهِم لا يُعادل بالضرورة ما كان في القلب. أن نمنح الآخرين فرصة التوضيح، ونسأل أنفسنا قبل أن نحكم: هل فهمت حقًا؟ أم فسّرت فقط؟
وربما الأصدق أن أقول:
حتى هذا النص، الذي كتبته الآن، لن يُقرأ كما أردت تمامًا. سيفهم كل قارئ بطريقته، وفق مزاجه، وسياقه، وذاكرته. وربما يُساء فهمه، أو يُفسَّر على غير ما أردت. فنحن قد نُخطئ حين نفهم، نعم ... لكننا نُخطئ أكثر حين نحكم.