ترجمة: ملاك بنت مالك المسلمانية، كلية الآداب والعلوم الاجتماعية .
"إن ساعات اليقظة التي أعيشها بعد ليال خيالية، لهي رهيبة الوقع في نفسي."
لدينا جميعًا أحلام وخيالات، وأماكن نهرب إليها حين يسدل الليل ستاره، أو نجد فيها عزاءً حين تبدو الحياة خاوية من المعنى. لطالما شاعت مقولة السعي وراء الأحلام وعدم التخلي عنها، لكن أيمكن أن تكون الأحلام إحدى أخطر مغامرات النفس؟ أتقدر على سرقة منا حياتنا ببطء؟ هذه هي الرسالة التي يقدّمها دوستويفسكي في روايته الليالي البيضاء، رواية تتشابك فيها الأبعاد؛ فهي قصة حب مأساوية، ومذكرات عاشق يائس، وتجسيد أدبي دقيق لما يُعرف حديثًا بـ "الفريندزون". لكن، بين ثنايا كل تلك العبارات عن الحب، يتردد تحذير صارخ من خطر الانغماس الطويل في عوالم الأحلام، وتذكيرٌ قاسي بضرورة مواجهة العالم الحقيقي بكل شوائبه، بدلًا من الارتماء إلى أحضان الخيال الواهي. سنتعرف كيف يمكن للأدب الرومانسي أن يعبث بحياتنا، وكيف للقصص أن تسيطر على تصرفاتنا، وكيف قد نملأ أيامنا بالخيال حتى ننسى أن نحيا.
تحكي الليالي البيضاء قصة راوٍ مجهول الاسم، يلتقي شابة في أمسية هادئة بينما كان يتجول في شوارع بطرسبورغ. يعاني الراوي وحدة قاتلة، فيبوح لها بأن لا رفاق له سوى الأحلام والأدب. أما الشابة، ناستنكا، فتعيش على أمل عودة حبيبها الذي غاب عنها عامًا بأكمله، واعدًا إياها بالرجوع وربما الزواج. على مدار أربع ليالٍ، يقع الراوي في حب ناستنكا، بينما تظل هي وفية لحبيبها الغائب. وفي الليلة الأخيرة، حين تذبل آخر بقايا الأمل في عودته، تقبل بمحاولة حب الراوي. ولكن، في تلك اللحظة، يعود حبيبها فجأة، فتتركه بلا تردد وحيدًا محطمًا.
أولاً: خطر السرديات
إن الراوي وبطل رواية الليالي البيضاء شخصيّة مثيرة للاهتمام. فهو يواصل لقائه بناستنكا ليلة بعد أخرى، حاملا في قلبه أملًا خفيًّا بأن تقع في شباك حبه رغم تأكيداتها المتكررة بأن العلاقة بينهما لن تتعدى حدود الصداقة النبيلة. هنا يبرز السؤال: ما الذي يدفعه للاستمرار؟ أظن أن الإجابة تكمن في شغفه الساكن بالسرديات. الإنسان بطبعه كائن مُحب للحكايات، ونحن دائمًا نبحث عن القصص التي يمكننا أن نجد فيها أنفسنا. قد نتخيل أنفسنا أبطالًا في بداية علاقة رومنسية، أو ربما نرتدي قناع الباحث العميق الذي يطارد الحكمة في كتب الفلسفة القديمة. ما يثير دهشتي دائمًا هو أن الأشخاص الناجحين غالبًا ما ينسجون قصصًا عن صعودهم وكأنها نتاج حتمي لسردية كبرى، بدلاً من الاعتراف بأن النجاح ليس سوى ثمرة مزج من الجهد الدؤوب، بعض الفرص الطيبة، وبعض المزايا. قد تكون القصص التي نحكيها لأنفسنا عن العالم فخًا نغذي به أحلامنا وسببًا في بؤسنا، إذ تحبسنا في دوائر سلوكية تقودنا نحو اليأس، وتوهمنا بأن أفعالنا ستؤتي ثمارها، حتى إذا كان الحل الأفضل هو ترك ما نفعله والبدء من جديد، بعيدًا عن أوهامنا.
لا شيء يوضح هذا الميل البشري لنسج القصص عن أنفسنا كما يفعله الراوي في الليالي البيضاء. إنه محاصر في نمط من التظاهر بأنه لا يحمل نوايا رومانسية تجاه ناستنكا لان لديه تصور عن كيف ستتطور الأحداث. في ذهنه، هو البطل الذي سيكتشف في النهاية أن ناستنكا ستفيق من وهمها، وتدرك أن حبيبها لن يعود أبدًا، وأنه لم يكن الرجل المناسب لها على كل حال. يعتقد في نفسه أنه بطل الرواية غير المتوقع، وكل ما عليه فعله هو الانتظار حتى تنتهي الرواية، وحينها ستقفز ناستنكا إلى ذراعيه، تغدق عليه قبلاتها، ويرحلان معًا نحو غروب الشمس. والطريف أن هذه السردية تكاد تتحقق. فحين تفقد ناستنكا الأمل في عودة حبيبها، تكون على وشك الموافقة على الذهاب مع الراوي، لكن في اللحظة الفاصلة، يعود حبيبها، ويترتب على ذلك أن تتركه بلا تردد، عائدة إلى الرجل الذي تحبه فعلاً. وهذا ما كان متوقعًا. تعرف ناستنكا حبيبها منذ زمن أطول بكثير من معرفتها بالراوي، وقد انتظرته عامًا كاملاً ليعود. ليس من المفاجئ أن تنتهي معه، ولكن هذا يصدم الراوي والقراء، لأنها ليست الطريقة التي "يفترض" أن تنتهي بها الروايات الرومانسية. لو كانت هذه قصة حب كلاسيكية، لكانت ناستنكا قد أدركت خطأها، ولأثبت الراوي أنه كان على صواب. كان الحب سيتفوق على كل شيء، وتتحقق كل تطلعاتنا وآمالنا إذا انتظرنا وثابرنا. لكن الواقع لا يسير على هذا النحو. إن كل هذه التوقعات ما هي إلا أمنيات محضة. لا يعدنا الكون بأن الشخص الذي نرغب فيه سيبادلنا ذات الحب. السردية الرومانسية، مثل العديد من السرديات الأخرى، لا تعكس واقع الحياة. وقد بيّن دوستويفسكي هذا ببراعة في روايته القصيرة.
غالبًا ما تُوصف الليالي البيضاء بأنها رواية رومانسية كلاسيكية، لكنني أراها محاكاة ساخرة رائعة للعديد من السرديات الرومانسية التي ننسجها في أذهاننا، سواء من الأدب أو من خيالاتنا الخاصة. لا يحصل البطل على الفتاة، رغم كل تصرفاته النبيلة، وهذا ليس بسبب قسوة ناستنكا أو تقلبها، بل ببساطة لأنها تحب شخصًا آخر. حبيبها ليس شريرًا، وناستنكا لا ترتكب خطأً فادحًا بتركها للراوي. هو شخص عادي تمامًا مثل الراوي، ولكن هو من تختاره ناستنكا. وهذا كل ما في الأمر. قد يكون لذلك تأثير مدمر على الراوي، لكنه النتيجة الطبيعية لتوقعاته المبالغ فيها. وهنا نجد النقد الثاني البارز في السرد الإنساني داخل الكتاب...
ثانيًا: وهم التوقعات العظيمة
إحدى الأفكار التي تستهوي عقلي في الفلسفة البوذية تتمحور حول مفهوم "التعلق". يمكن للناس أن يتعلقوا بالأشياء، أو الأشخاص، أو المناصب، أو حتى الهويات، ولكن أحد أعمق الأشياء التي قد نتعلق بها دون أن نعي هو رؤى المستقبل. بمعنى آخر، نحن نتشبث بتوقعاتنا، وعندما تتعثر تلك التوقعات، يمكن أن نصاب بجروح عميقة. من الطبيعي تمامًا أن يكون لدينا بعض التوقعات من الحياة؛ لا يمكن لكل الناس أن يتحولوا إلى رهبان يعيشون في كهوفهم بعيدًا عن التصورات المسبقة عن كيفية سير العالم. ولكن الليالي البيضاء تبرهن لنا كيف يمكن لتوقعاتنا أن تتحول إلى مصدر أذى عندما ندعها تخرج عن السيطرة.
يعاني كل من الراوي وناستنكا من اضطراب عميق طوال الرواية، ليس لأن أحدهم آذاهم عمدًا، بل لأن الحياة لم ترقَ إلى مستوى توقعاتهم. كانت ناستنكا تشعر بالحزن كل ليلة عندما لا يظهر حبيبها، رغم وجود فرصة معقولة لعودته من أجلها. كانت منزعجة لأن حبيبها لم يلبِ توقعاتها في تلك اللحظة بالذات. تعلقّت آمالها، ثم تحطمت.
لكن الخطر الأكبر يكمن في شخصية الراوي. كانت ناستنكا واضحة للغاية طوال الرواية في تقديرها للصداقة المتنامية بينها وبين بطلنا، لكنها لم تحمل أبدًا أي تطلعات رومانسية تجاه تلك العلاقة. بل إنها طلبت منه ألا يقع في حبها، وهو ما أخذته على محمل الجد، حتى أنها استمرت في تذكيره باستمرار بعدم وجود شيء عاطفي بينهما. ومع ذلك، تواصل توقعاته الخروج عن السيطرة. وهذا ليس انتقادًا للراوي، فكلنا عرضة لذلك بين الحين والآخر. أعرف العديد من الأصدقاء الذين يملؤون رؤوسهم بشكل لا إرادي بصور عن مستقبل غير حقيقي بعد بضعة مواعيد مع شخص ما. وهذا في حد ذاته قد يكون تمرينًا غير ضار على الخيال. لكن المشكلة تنشأ حينما يصبح الشخص الرومانسي متعلقًا بغلو بمستقبله المتخيل، ويرفض التخلي عن تلك الرؤية، مهما كانت أظهرت الأدلة عكس ذلك. يبدو أن الراوي يعرف في أعماقه أن ناستنكا لا تحبه كما يحبها هو. في كل مرة تذكر ناستنكا فيها حبيبها، يصف الراوي ألم قلبه، ومع ذلك يتشبث بأمل تغير الوضع، فتتجدد جراحه في كل مرة ترفضه ناستنكا عن غير قصد.
يقول الفيلسوف الرواقي إبيكتيتوس إنه حتى في أعمق علاقاتنا، يجب أن نتذكر دومًا أن هذا الشخص ليس ملكًا لنا لنتحكم فيه. قد يمرض، أو يمل منا، أو يموت، أو يقرر أن يكون مع شخص آخر، وأصر أن ذلك ليس بالأمر الذي ينبغي أن يثير دهشتنا. هل تصورنا يومًا أنه من المستحيل لهذا الشخص أن يغادرنا أو ألا يحبنا بالمقابل؟ أم أننا فقط تعلقنا كثيرًا بمستقبل متخيل؟ هل تمسكنا بتوقعاتنا عن المستقبل لدرجة أننا أفسدنا الواقع الموجود أمامنا؟ يمكننا القول إن الراوي كان بإمكانه أن يبني علاقة صداقة رائعة مع ناستنكا، وأن تكون صداقتهما إحدى ركائز سعادته. لكنه كان مغرمًا بفكرة معينة عن المستقبل، ونتيجة لذلك صدمه الواقع كما هو.
أعتقد أن هناك درسًا هنا يمكننا جميعًا الاستفادة منه. قد لا يكون هذا الدرس بنفس جاذبية بعض جوانب الفلسفة الأخرى، ولكن الفعل البسيط لإدارة توقعاتنا يمكن أن يحقق المعجزات في سعادتنا المستدامة. وقد أوضحَت هذه الفكرة ببراعة في الليالي البيضاء. لكن هناك موضوعًا كبيرًا في كتاب دوستويفسكي لم نتطرق إليه بعد، وهو القوة الدافعة لحياة الراوي، وأيضًا السبب الجذري لمعظم بؤسه.
ثالثًا: خطر الخيال
أتذكر عندما كنت مراهقا حزينا ومنعزلا بعض الشيء، حلمت ذات ليلة أنني التقيت بشخص ما. وبعد صداقة قصيرة، أصبحنا معًا. كنت أعيش في الحلم ذكريات حية عن سنوات قضيناها سويًا، وكأن الزمن التوى حول تلك اللحظات الليلية. وعندما استيقظت، شعرت بصدمة عميقة وخيبة أمل مريرة؛ كنت ما زلت الفتى الوحيد والغريب كما كنت قبل النوم. لمدة أسبوع تقريبًا، كنت أرجو كل ليلة أن أعود إلى ذلك الحلم هربًا من واقع لم أكن ممتن له. تخلصت سريعًا من هذا المزاج الغريب لحسن الحظ، لكن بطل الليالي البيضاء لم يستيقظ أبدًا من هذا الحلم. لقد عاش حياته كلها في هذا العالم الخيالي، ومزق نفسه نتيجة لذلك.
يصف الراوي نفسه بأنه حالم. يخبرنا أنه يقضي معظم وقته ليس في التفاعل مع العالم الحقيقي، بل بالهروب إلى عالم من نسج خياله. يصنع قصصًا لنفسه عن حياة الأشخاص من حوله، ويتخيل أن هذه القصص حقائق. يتجول في شوارع سانت بطرسبرغ، لكن المدينة الحقيقية تختفي تحت ضباب أحلامه اليقظة. يحلم بالرومانسية، والمغامرة، والجمال، والاتصال البشري. والأهم من ذلك كله، يحلم بقصص يكون هو بطلها. يكون العالم كله يدور حوله في هذه الخيالات، وهو الشخصية الرئيسية في مسرح الحياة.
يجد الراوي في هذا العالم البديل ملاذًا أكثر جاذبية بكثير من الواقع الكئيب الذي يرى فيه نفسه كشاب عادي لم يحقق شيئًا يُذكر. لكنه يدرك، في لحظة من التأمل المرير، أن كل ما بناه في خياله قابل للانهيار في يوم رهيب، عندما تصطدم أحلامه بالواقع. يتخيل نفسه مستلقيًا على سريره، يراقب مغامراته المتخيلة وهي تتلاشى، ليواجه الحقيقة المؤلمة لحياته.
لقد أصبح الراوي مدمنًا على خياله، وهذا الإدمان استنزف حياته ببطء، فلماذا ينخرط في العالم الحقيقي بينما يوفر له خياله هروبًا أكثر إغراءً؟ هذا النوع من الهروب يذكرني بما وصفه الفيلسوف كيركجارد في كتابه "المرض حتى الموت". يتحدث كيركجارد عن كيف يمكن للناس أن يُعموا عن بؤسهم الحقيقي من خلال الانسحاب إلى عالم خيالي. إنهم يتخيلون طرقًا لا حصر لها يمكن أن تسير بها حياتهم، ومسارات غير واقعية يمكن أن يسلكوها. لكن هذا الوهم ينهار في النهاية، وتندفع آلام اليأس بكل قوتها بعد أن تم تجاهلها لفترة طويلة.
ومع ذلك، هناك تعقيد إضافي في قراءة رواية الليالي البيضاء. رغم أن الرواية تنتقد الغرق في الخيال، فإن وجودها ذاته هو ثمرة خيال دوستويفسكي. قصصه تقدم لنا أعظم الأفكار الفلسفية والنفسية، مما يذكرنا بالقوة الهائلة للخيال. هنا يكمن التوتر الفلسفي في العمل؛ فبينما يحذرنا دوستويفسكي من الغرق في خيالاتنا، يذكرنا أيضًا بقدرة السرد القصصي على إيصال الأفكار بعمق وجاذبية. الرسالة التي أستخلصها من هذا التناقض هي أن الخيال قوة عظيمة ذات حدين. يمكنه أن يمنحنا أعظم الأفكار والإلهام، لكنه أيضًا قادر على إغرائنا لدرجة قد تبعدنا عن الواقع. لذا، يمكن أن يكون الخيال مصدرًا للمتعة والمعنى، ولكنه لا يمكن أن يكون بديلًا عن مواجهة العالم الحقيقي والتفاعل معه بوعي.
من خلال هذا العمل، يقدم لنا دوستويفسكي تحذيرًا: قد نكون جميعًا مثل الراوي، نحلم بأن نكون أبطال قصصنا الخاصة. لكن إذا لم ننتبه، فإن تعلقنا بهذه الأحلام قد يصبح مصدرًا لمعاناتنا. الآن، أريد أن أتعمق أكثر في فكرة الراوي الذي يتوق لأن يكون محور حياته الخاصة، وأستعرض ما أراه الجذر الحقيقي لمعاناته.
رابعًا: الأنا، الرومانسية، والمعاناة
أتذكّر صديقًا بقي أسير علاقة كانت تمزّقه لفترة طويلة. لم تكن تلك العلاقة تحمل له سوى التعاسة، لكنه مع ذلك، تمسّك بها، رغم يقينه بأنه بحتاجة إلى الرحيل ليجد سلامه النفسي. ذات مساء على طاولة القهوة، سألته: "لماذا تستمر؟" فأجاب بشيء ظل عالقًا في ذهني طويلاً، قال: "أحب ما تقوله علاقتي بشخص مثلها عني. تجعلني أشعر أنني جذاب، حتى لو كنت تعيسًا." صدمني جوابه، إذ كيف يمكن لعلاقة تلتهمه عاطفيًا أن تتحول إلى قيد يلتف حوله بحبل صورة ذاته؟ كان مستعدًا لتحمل الألم فقط لحماية تلك الصورة التي صنعتها له الأنا. كانت هذه العلاقة، رغم ما حملته من معاناة، حاجزًا يحميه من أحد أعظم مخاوفه: أن يكتشف أنه ليس جذابًا كما يعتقد. كان يخشى أنه إذا ترك العلاقة ولم يجد من يحبه، ستتأكد أسوأ مخاوفه بشأن نفسه. أعتقد أننا جميعًا، بدرجات متفاوتة، نقع أحيانًا أسرى لأنماط مدمّرة كهذه. نتمسك بما يضرّنا، لا حبًا فيه، بل خوفًا على صورتنا في عيوننا أو عيون الآخرين.
تنعكس هذه النزعة الإنسانية بوضوح بين شخصيات الليالي البيضاء. يعترف الراوي، الغارق في وحدته، بخوفه من أن يبقى بلا ارتباط إنساني حقيقي. جزء من هذا الخوف يدفعه للغرق في عالم خيالي، يحتمي فيه من رعب الرفض، لكنه في ذات الوقت يعزله عن أي تجربة حقيقية. هذا العالم الذي نسجه بخياله أصبح فقاعة شفافة؛ تحميه من الألم لكنها تمنعه من التفاعل مع العالم الواقعي أو السماح لأي إنسان بالدخول إلى حياته بصدق. وعندما رفضته ناستينكا، كانت صدمته مزدوجة. في خياله، كان فارسها الأبيض، البطل الذي سيغير حياتها وينقذها. لم يكن رفضها مجرد فقدان أمل في الحب؛ بل كان هدمًا لصورته التي بناها لنفسه. احتاج حبها لتأكيد هويته، ولما سقطت، تهاوت معها صورة الذات التي كان يحاول أن يحميها.
لكن ناستينكا نفسها لم تكن بريئة من استخدام الحب كمرآة تعكس صورة ذاتية ترغب في تعزيزها. عندما اعتقدت أن حبيبها لن يعود، لجأت إلى الراوي، ليس حبًا فيه، بل هروبًا من انهيار تصورها لنفسها كامرأة محبوبة. أرادت أن تشعر بأنها مرغوبة مرة أخرى لتبقى صورتها الذاتية متماسكة. في لحظة من اللحظات، استخدم كل منهما الآخر دون وعي، كأن العلاقة بينهما ليست إلا انعكاسًا لحاجات النفس. وهذا ليس غريبًا. تقول واحدة من أكثر الأفكار المفضلة لدي لسارتر إن هوياتنا لا تتشكّل في العزلة، بل تحتاج إلى أن تؤكدها نظرات الآخرين لنصدقها.
لكن الانغماس المفرط في هذه الهويات قد يقودنا إلى دوامة من المعاناة. إذا عشنا حياتنا محاصرين في رؤوسنا، مهووسين بصورتنا الذاتية، قد ننتهي بتضخيم أهميتنا الشخصية. نرى أنفسنا دائمًا أبطالًا في مسرح الحياة، وهو تصور قد يبدو مرضيًا لكنه يحمل معه ثقلًا مرهقًا. يجعلنا نشعر وكأن الأضواء مسلّطة علينا وحدنا، في حين أن الواقع أبسط من ذلك بكثير. أحيانًا، علينا أن نذكر أنفسنا أننا لسنا سوى خيط صغير في نسيج بشري متكامل، نشارك فيه الجميع مشاعرهم وأفكارهم التي لا تقل أهمية عن أفكارنا. قد لا تكون هذه الفكرة مثيرة كتصور أنفسنا كأبطال للحياة، لكنها تمنحنا في النهاية سكينة نادرة.
وأخيراً، هناك درس واحد يمكننا أن نستخلصه من هذه القصة الرومانسية لدوستويفسكي...
خامساً: التركيز المفرط على الحب الرومانسي.
الحب يشكل موضوعاً مهماً في روايات دوستويفسكي. يُعد حب راسكولنيكوف في "الجريمة والعقاب" عاملاً يُعيد إليه الشرف. لكن في الليالي البيضاء، تتجلى النظرة النقدية لدينا تجاه الهوس بالحب الرومانسي. في نهاية الرواية، يبقى الراوي وحيداً، معترضاً على مستقبله المظلم. بعد خمس عشرة سنة، يجد نفسه ما زال يعيش في نفس المكان، غير ملتزم بالواقع، ومنغمس في ذكرياته مع ناستينكا، التي تمنح حياته القليل من المعنى. يتساءل علنًا عما إذا كان الوقت الذي قضاه مع ناستينكا يستحق كل هذا العناء قائلاً:"لحظة بأكملها من سعادة… رباه هل تحتاج حياة إنسان إلى أكثر من هذا؟" هذا هو آخر سؤال يطرحه الراوي، دون أن يجد له جواباً. يمثل هذا السؤال نقداً عميقاً لفكرة الراوي حول الحب، حيث يتخيل أن لحظة صغيرة من الرومانسية تكفي لملأ حياته بأكملها.
تعامل الراوي مع الحب الرومانسي يجعله غير قادر على النظر إلى المستقبل بشكل إيجابي أو الوقوع في حب شخص آخر. يتجاهل كل أشكال الحب الأخرى التي يمكن أن تُضفي معنى على حياته. كان لدى الإغريق القدماء مفهوم عن الحب يُسمى أغابي (Agape) وهو نوع من الحب النزيه مثل الحب النابع من الوالدين لأطفالهم أو الحب الروحي كما آمن دوستويفسكي لاحقا أن المسيح يحمله للبشرية. ولكن في سعي الراوي خلف الحب الرومانسي لإكمال حياته، يفقد القدرة على اكتشاف كافة أبعاد الحب التي يمكن أن تمنحها حياته معنى وإشباعاً.
أشار أرسطو إلى أن الحب الحقيقي يتمثل في المحبة نفسها، والشخص الذي يستطيع استخلاص أكبر قدر من المعنى من الحب هو الذي يعرف كيف يحب بالطريقة الصحيحة. لو كان الراوي قادراً على احتضان ذلك، ربما كان سينظر إلى مستقبله بأمل بدلاً من الإحباط. بفضل لقائه بناستينكا، تعلم كيف يُحب، وكان بإمكانه الآن أن يُقدم هذا الحب للعالم بأشكال مختلفة، بدلاً من أن بدلاً من أن يذبل في شقته البائسة في بطرسبرغ.
*ترجمة نصية لفيديو نقدي نشره فولي جوزيف بعنوان "Dostoevsky’s Warming to Lovers White Nights"
(متاح عبر الرابط: https://youtu.be/iUxyqj7L5Sg?si=sUalSzhOpqPKSmV1).