- نجاة بنت صالح الكلبانية / مركز الدراسات التحضيرية.
يطل علينا تاريخ الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام ليذكرنا بمولد الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، ونحتفي بالمناسبة كما نظن بإنه يجب أن يُحتفى بها.
وكل عام أيضا تنطلق نداءات معترضةً على هذا النوع من الاحتفال معللةً ذلك بأنه "بدعة" إذ إنه وبحسب هؤلاء لم يحتف النبي صلى الله عليه وسلم بيوم مولده، ولم يحتف به كذلك الخلفاء الراشدون أو من تبعهم من السلف وهم كانوا أجدر بفعل ذلك.
وتأتي الحجة على قول هؤلاء بإنه لا ضير من الاحتفاء بالمولد النبوي حيث أن الغاية منه هو تذكيرنا بسيرة النبي عليه أفضل الصلاة السلام.
والجدل بالنسبة لي لا يجب أن يكون في الاحتفال أو عدمه ولكن هو في هيئة الاحتفال.
في نظري لم يكن هناك حاجة للاحتفاء بمولد النبي في عهد أيٍ من الخلفاء لإنهم كانوا أصدقاء محمد وأتباعه. عرفوا عنه كل شيء واتبعوه في كل شيء. عاشوا معه أيامه بأفراحها وأحزانها ورافقوه في طريق الدعوة الوعر وساندوه وآزروه. كانوا ظله الذي لا يفارقه وكان له الأذن المنصتة واللسان المدافع الذي لا يكل ولا يمل واليد التي تصد عنه هجوم الأعداء. كان لهم كل شيء فبذلوا له -وبكل حب-كل شي.
أما نحن وبحكم البعد الزمني وكذلك نظرا لما تمر به الأمة اليوم من مآسي وتخاذل، فإننا أحوج ما نكون بأن نذّكر أنفسنا بما بذله النبي عليه الصلاة والسلام في سبيل أن تصلنا الدعوة الإسلامية. ففي بعض الأحيان ننسى -أو لربما نتناسى- أن الرسالة ما كانت ستصل إلينا لولا ثبات الرسول في وجه قريش وحلفائها وفي وجه كلٍ من المنافقين واليهود والفرس والروم ومن جاء بعدهم من المرتدين ومدعي النبوة وغيرهم الكثير على مر الأزمان. لولا ثبات النبي وجهاده غير المستكين هو ومن تبعه لما وصل هذا الدين إلينا. وإن كان الاحتفاء بالمولد النبوي سيكون سببا يجعلنا نستذكر هذه الحقيقة فنعمّا هو من احتفاء.
يأتي المولد النبوي لهذا العام كذلك في ظرفٍ إستثنائي في وقت اختار فيه الرئيس الفرنسي أن يشن هجوما على الإسلام وأتباعه وأن يدخلنا مجددا جميعا في دوامة الرسوم المسيئة للرسول والتي نشرتها الصحيفة الفرنسية تشارلز إيبدو في عام 2015 والتي قُتل بسببها عندئذ 12 شخصا.
في هذا النوع من الحوادث دائما اسأل نفسي لو كان رسول الله بيننا يا ترى ماذا كانت ستكون ردة فعله على من أساء له؟ وهل كان سيسير جيشا لمعاقبة من تعدى عليه أو هل كان سيأمر اتباعه بقتل من قام بهذا الفعل؟ أجزم أن هذا الفعلَ ما كان ليغضبَ رسول الله، فالقارئ والمتتبع لسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم تماما أن الرسول ما كان يغضب لنفسه ولا ينتقم من أحدٍ لإنه تسبب بإيذاء شخص الرسول.
فقد أوكلت إلى رسول الله مهمة دعوة الناس أجمعين لعبادة إله واحد ومن يحمل هذه الأمانة ويستشعر عظم المسؤولية تكون له نظرةً مختلفة عن ما يراه العموم وتأتي أفعاله متوافقةً مع تلك النظرة. فالغضب والمواقف الحازمة الحاسمة تكون فقط لما يمس تلك الدعوة وما يؤثر على سيرها.
وقد وصف أنس بن مالك رضي الله عنه تعامل الرسول معه فقال: "خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍّ قَطُّ، وما قال لشيء صنعته لِمَ صنعته، ولا لشيء تركته لِمَ تركته".
أن يكون لأحدٍ من البشرِ القدرةَ على ألا يقول "أفٍ" -وهو تعبيرٌ بسيطٌ يستخدمه أحدنا ليعبر عن انزعاجه - وعلى مدى عشر سنين ومع من؟ مع خادمه فنحن بالطبع لا نتكلم عن بشرٍ كأيٍ منا. نحن نتكلم عمن وصفه الله عز وجل بإنه على خُلُقٍ عظيم. هذا من اجتمعت فيه أسمى الصفات وارتقت منه الروح فهو يتصرف بروحانيةٍ تختلف عن روحانية كل البشر. هذا من استحق أن يكون الرحمة المهداة للعالمين. فمن اختاره الله لهذه المكانة لن يغضبه تهكم المتهكمين ولن تسيئه سخرية الساخرين. ومن عاد اليهودي حين مرض وهو الذي كان يؤذي النبي ومن أعطى قميصه ليُكّفن به رأس المنافقين عبدالله بن أُبي بن سلول وهو الذي آذى الرسول وأصحابه بالقول والفعل ومن قال لقادات قريش "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وقد كانت له اليد العليا عليهم حينئذٍ لم يكن ليأمر لينتقم من حفنةٍ قررت أن ترسم عنه بعض الرسوم الكاريكاتورية.
إن الاحتفاء بالمولد النبوي هو فرصتنا للاحتفاء بأخلاق الرسول وأن نشاركها مع العالم أجمع، وأن نخبر العالم من هو محمد وكيف عاش محمد وما قدمه لهذه الأمة. إن هذا الاحتفال هو فرصتنا لنلغيَ تلك الصورة النمطية التي سمحنا للغير برسمها ونشرها عن ديننا. هو فرصتنا للاحتفاء بما جاء به هذا الدين من رحمةٍ ويسرٍ وسماحةٍ. فالناس تركت كل هذا الخير وانكفأت على التقول على هذا الدين بأنه ضد كل من يدين بغير الإسلام ونحن أعلم أن ذلك افتراء على ديننا. فإن كان لأحدٍ الحق أن ينشرَ معاني الرحمة والإحسان واليسر والعدل والأمانة فهم نحن. من أطلق علينا النبي لقبَ أحبابه، أوليس حبه لنا وحبنا له أدعى بإن نُري العالم أجمع من هو محمد؟