د/ محمد العودات، قسم الإحصاء، كلية العلوم
منذ أن خلق الله الإنسان على سطح هذه البسيطة وهو يُعنى بجمع المعلومات، إذ تشير الكتابات التاريخية إلى اعتناء الإنسان بجمع المعلومات البسيطة حول الظواهر المحيطة به كحالة الجو؛ وذلك للاستفادة منها في تنظيم نشاطه الزراعي والرعوي. وكذلك الإنسان العربي - شانه شأن غيره - اعتنى برصد أحواله ومظاهر بيئته. ولعل القول المأثور في تراثنا العربي"الشعر ديوان العرب" دليلٌ واضحٌ على ذلك. فهذا امرؤ القيس يرصد لنا شيئا من ذلك، إذ يقول:
وفِيهِ القَطَا والبُومُ وابنُ حبَوكَلِ وطَيرُ القَطاطِ والبَلندَدُ والحَجَل
وفِيلٌ وأَذيابٌ وابنُ خُوَيدرٍ وغَنسَلَةٌ فِيهَا الخُفَيعَانُ قَد نَزَل
في تاريخنا الإسلامي، أدرك الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أهمية توثيق البيانات؛ فاستحدث دواوين الجُند؛ لتسجيل المعلومات المتعلقة بالجنود. واليوم، تنبه الإنسان إلى أهمية المعلومات الإحصائية ودورها في الحكم الرشيد: التخطيط والتنظيم وإدارة الأزمات، حيث عكفت الدول والشركات والمؤسسات الكبرى على استحداث أجهزة خاصة بها، تعنى بجمع البيانات. وفي هذه المقالة، نتحدث باقتضاب عن دور البيانات الإحصائية وتأثيرها في حياتنا وتصوراتنا.
ما البيانات الإحصائية؟
البيانات الإحصائية هي كل ما يمكن جمعه أو تسجيله من معلومات عن المجتمع الإحصائي - مجموعة الأشياء قيد الدراسة - كالأسعار ودرجات الحرارة وكميات الهطل و جنس المواليد و زمرة الدم. فعلى سبيل المثال-لا الحصر- يقوم المركز الوطني للإحصاء والمعلومات في سلطنة عُمان بجمع معلومات كبيرة جدًا، وبشكل دائم، عن أحوال السكان، حيث يتم تسجيل بيانات متعددة حول سوق العمل والنشاط الاقتصادي، والأحوال الاجتماعية للسكان وأعداد الوفيات والمواليد الجدد.
علم الإحصاء وعلم البيانات
ادت السنوات الخمسون الأخيرة قفزة تكنولوجية هائلة، أثرت تأثيرًا نوعيًا في حياة الإنسان. وقد صاحب تلك القفزة تطور كبير في تقنيات جميع البيانات وتخزينها ومعالجتها؛ مما أدى إلى ولادة علوم مستقلة عن علم الإحصاء، تُعنى بجمع البيانات ومعالجتها واستخراج الأفكار منها. ومن جملة هذه العلوم علمان هما: علم البيانات(Data Science) وعلم التنقيب في البيانات(Data Mining). وهنا نشير إلى مجلة بيزنس هارفارد ريفو التي تقول: "إن علم البيانات هو الوظيفة الأكثر إثارة في القرن الواحد والعشرين".
وتزامن مع تلك الطفرة التكنولوجية، تطور القدرة على تحليل البيانات. ومن ذلك، القدرة على توليد صور عالية الدقة والجودة باستخدام أجهزة رصد الصور. حيث أصبح بإمكاننا-باستخدام أجهزة الرنين المغناطيسي- توليد صور ثلاثية الأبعاد للدماغ البشري و رصد نشاطاته تحت ظروف تجريبية معينة، وكذلك صور عالية الجودة للمجرات الكونية باستخدام المراصد الفلكية العملاقة. ومما يجدر ذكره-أيضًا- أن شركات مواقع التواصل الاجتماعي- كالفيس بوك و تويتر وأيضا شركة جوجل، يستطيعون رصد كثير من النشاطات الاجتماعية للمشتركين، مما يفتح شهية الباحثين عن هذه البيانات -التي تعد ركيزة اساسية في بناء تصورات حول رغبات الزبائن ومستوى رضاهم بسلع المنتِج.
لقد سيطرت فكرة الحصول على بيانات شاملة - عن الكون - على تفكير كثير من العلماء، فهذا الفيزيائي لابلاس يقول: إذا تمكنا من معرفة مقدار سرعة واتجاه كل ذرة في الكون، فإنه يمكننا التنبؤ بالمستقبل من الآن وإلى الأبد. ولقد ساعدت الطفرة في عملية جمع البيانات على ظهور ما يسمى اليوم بالبيانات الضخمة(Big Data)، حيث أصبحت الدول العظمى تتنافس على امتلاك المعرفة والقدرة على تخزين وتحليل هذا النوع من البيانات؛ إذ يُعد القبض على ناصية المعرفة - في هذا المجال - مؤشرًا مهمًا من مؤشرات التفوق على الآخر. ونريد بالبيانات الضخمة، تلك البيانات التي تستعصي على التخزين والمعالجة والتحليل بسبب ضخامة حجمها.
كيف تغير البيانات حياتنا؟
للبيانات الإحصائية دور مهم في حياتنا اليومية والمستقبلية؛ فمن خلال البيانات، يستطيع واضعو السياسات التخطيط للمستقبل؛ وذلك من خلال قياس التأثيرات السلبية في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لبعض العوامل، وتفادي تلك العوامل الخطرة. مما يُمَّكن من الكشف عن فرص تحسين الاقتصاد والصحة المجتمعية. كذلك، تمثل نتائج المسوحات الإحصائية حول توجهات الناخبين إرهاصا للمرشحين؛ مما يجعل الساسة وصانعي المحتوى الإعلامي في حالة من الحذر والترقب الدائم. كما تغير البيانات الإحصائية نظرتنا للكون؛ من خلال رصد صور رقمية للثقوب السوداء والمجرات باستخدام مراصد فلكية موزعة على سطح الكرة الأرضية.
إنَّ للبيانات الضخمة - وعلى وجه الخصوص، بيانات التواصل الاجتماعي - أهمية كبيرة في توجيه المجتمع البشري - سلبا أو أيجابا - بما تحتويه من معلومات هائلة عن شريحة كبيرة من البشر. مما يفتح الفرصة- أمام أصحاب النوايا السيئة - لبث أفكارهم بين الناس؛ ومن أجل ذلك يشدد الباحثون في مجال البيانات الضخمة على ضرورة التحلي بأخلاقيات البحث في هذه المجال.
ونحن نعايش اليوم جائحة كورونا، يظهر دور البيانات الإحصائية جليًا في إدارة هذه الأزمة العالمية، إذ تقوم الدول برصد الحالة الوبائية على مدار الساعة، وتقديم تقارير لتحديد الخارطة الوبائية لهذا الوباء؛ مما يساعد الحكومات على فهم طبيعة انتشاره وتحديد سبل مكافحته.
وفي الختام - ونظرًا لتواضع المعرفة في بلادنا بهذا المجال - نود أن نلفت انتباه صانع القرار العربي عامة، وفي السلطنة خاصة، إلى الاهتمام بعلوم البيانات وضرورة امتلاك أمتنا لهذا المعرفة، حيث ستكون الشغل الشاغل للأمم، ومدار البحث في كتابات المعاصرين.