X638311283768843821

 



Banner-02

رؤية سوسيولوجية في أزمة التوازن الديموغرافي في الخليج

16 Jun, 2025 |

unnamed

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  •  د. جهاد بن جميل حمد، الأستاذ المشارك في قسم علم الإجتماع والعمل الاجتماعي.

 

 

تُشكل التحولات الديموغرافية في دول مجلس التعاون الخليجي إحدى أكثر القضايا الاجتماعية إلحاحًا وتعقيدًا. تتصاعد المخاوف المجتمعية من "الاكتظاظ الوافد" وتداعياته على الهوية والأمن القومي. ومع ذلك، يتطلب تشخيص هذه المشكلة تحليلًا سوسيولوجيًا جذريًا يتجاوز إلقاء اللوم على الوافدين أنفسهم، ويركز على البنى الاجتماعية والاقتصادية التي أنتجت هذه الظاهرة.

البنية الريعية: تُمثل نظرية " الدولة الريعية - Rentier State Theory " (حازم بعلوجي، جياكومو لوتشياني) المفتاح لفهم التركيبة السكانية الخليجية (Beblawi & Luciani, 1987). فاكتشاف النفط أحدث تحولًا جذريًا في المعادلة الاقتصادية والاجتماعية:
- الثروة السهلة: وفرة العائدات النفطية قللت الحاجة للإنتاج المحلي المكثف، ووفرت دخلًا مرتفعًا للمواطنين عبر الوظائف الحكومية والمنح.

خلق أسواق عمل منقسمة: نشأت "سوق عمل ثنائي" (Doeringer & Piore, 1971) حيث هيمن المواطنون على الوظائف الحكومية والإشرافية ("مدير التوقيع")، بينما احتل الوافدون، خاصة ذوي المهارات المتوسطة والدنيا والأجور المنخفضة، وايضا القطاع الخاص والوظائف التشغيلية والإنتاجية.

أدى هذا إلى "فجوة إنتاجية هيكلية" اعتمدت بشكل متزايد على العمالة المستوردة لتحريك الاقتصاد الحقيقي.

نظرية التبعية والهجرة: يمكن تعزيز هذا المنظور من خلال إدخال نظرية التبعية (Dependency Theory)، والتي تُركز على العلاقة غير المتكافئة بين الدول المتقدمة والنامية. أما في سياق الخليج، يمكن النظر إلى دول الخليج كأنظمة تعتمد على رأس المال النفطي والعمالة الوافدة من الدول النامية. هذه التبعية لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتد لتشمل الجوانب الاجتماعية والثقافية، حيث تُساهم في تكريس الوضع الراهن للتركيبة السكانية. (Frank, 1966).

بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام منظور الهجرة كنظام (Migration Systems Theory) (Fawcett & Arnold, 1987). هذا المنظور يشير إلى أن الهجرة ليست مجرد حركات فردية، بل هي جزء من أنظمة أوسع تتضمن روابط تاريخية، ثقافية، واقتصادية بين البلدان المرسلة والمستقبلة للعمالة. هذا يفسر استمرار تدفق العمالة حتى في ظل محاولات "التوطين"، حيث أن هناك شبكات وعلاقات راسخة تُسهل هذه الهجرة.

تمكين المرأة والتحول في بنى الرعاية: شكلت مشاركة المرأة الخليجية في سوق العمل - رغم إيجابياتها الكبيرة على تمكين المرأة والتنمية - تحديًا ديموغرافيًا غير مقصود في ظل غياب هياكل رعاية اجتماعية بديلة (Longva, 1997)

تفويض أعمال الرعاية: خروج المرأة من المجال المنزلي أدى إلى "تفويض جماعي" لأدوار الرعاية (الأطفال، المسنين، المنزل) للعمالة الوافدة. تشير دراسات إلى أن كل امرأة خليجية تدخل سوق العمل "تخلق" طلبًا غير مباشر على 3-5 وظائف خدمية (حضانة، خدمة منزلية، نقل، خدمات تجميل، مطاعم) لسد الفراغ الناشئ (Kapiszewski, 2001).

اقتصاد الخدمات الاستهلاكية: تزامن مع هذا بروز "اقتصاد الخدمات الشخصية والاستهلاكية" الموجه أساسًا لاحتياجات الأسرة الحديثة والمرأة العاملة، وهو ما استدعى استيراد عمالة ضخمة جديدة (خادمات، سائقين، بائعات، كوافيرات، طهاة). تحول المنزل الخليجي إلى "وحدة إنتاجية صغيرة" تعتمد كليًا على العمالة الوافدة لإدارته.

نظرية الأدوار الاجتماعية وتأثير العولمة على الأسرة: يمكن تحليل هذا الجانب من خلال نظرية الأدوار الاجتماعية (Social Role Theory) (Eagly & Wood, 2012)، التي تُوضح كيف أن التغير في دور المرأة من ربة منزل تقليدية إلى مشاركة في سوق العمل أحدث فجوة في أداء الأدوار الأسرية التقليدية. هذه الفجوة تم سدها من خلال استيراد العمالة الوافدة، مما أدى إلى إعادة تشكيل الأدوار داخل الأسرة الخليجية. كما يمكن الاستفادة من منظور العولمة على الأسرة (Globalization and the Family). فالعولمة لم تؤثر فقط على الاقتصاد وسوق العمل، بل امتد تأثيرها إلى البنى الأسرية وأنماط الحياة. الطلب على العمالة المنزلية والخدمات الاستهلاكية هو نتاج لنمط حياة عالمي، حيث أصبحت الأسر تعتمد على توفر هذه الخدمات لتسهيل حياتها اليومية، مما يزيد من الحاجة إلى العمالة الوافدة (Constable, 2007).

أزمة الذكر الخليجي: الإقصاء الهيكلي (منظور سوق العمل والهوية). يواجه الذكر الخليجي تحديات هوية وإقصاء متعددة الأوجه:

  1. المنافسة في القطاع العام: تزايد عدد الخريجين والخريجات يفوق بكثير نمو الوظائف الحكومية المريحة والمجزية.
  2. الإقصاء من القطاع الخاص: عزوف (نسبي) عن الوظائف "اليدوية" أو ذات الأجور المتدنية في القطاع الخاص، مقابل تفضيل أصحاب العمل للوافدين الأقل كلفة والأكثر مرونة. هذا خلق "بطالة هيكلية" و "نقص مشاركة" بين الذكور المواطنين.

أزمة الهوية الإنتاجية: تراجع دوره التقليدي كمعيل أساسي في ظل الاقتصاد الريعي، دون إيجاد دور إنتاجي بديل مقنع في الاقتصاد الحديث، مما يساهم في شعور بالإحباط والاغتراب.

نظرية الإقصاء الاجتماعي ونظرية الدور الذكوري: يمكن فهم أزمة الذكر الخليجي من خلال نظرية الإقصاء الاجتماعي (Social Exclusion Theory) (Levitas et al., 2007). حيث تُركز هذه النظرية على الحرمان من المشاركة الكاملة في المجتمع، ليس فقط اقتصاديًا بل واجتماعيًا وثقافيًا. الإقصاء من سوق العمل، وعدم القدرة على تحقيق الهوية الإنتاجية، يُشعر الذكر الخليجي بالإحباط والعزلة، مما يؤثر على مشاركته الاجتماعية العامة. بالإضافة إلى ذلك، تُقدم نظرية الدور الذكوري (Masculinity Theory) رؤى قيمة. تُشير هذه النظرية إلى أن هناك توقعات مجتمعية محددة مرتبطة بكون الرجل "رجلًا"، بما في ذلك الدور كمعيل ومشارك في سوق العمل. عندما لا يتمكن الذكر الخليجي من تحقيق هذه التوقعات، فإنه يُعاني من أزمة هوية تُهدد مفهومه لذاته (Connell & Messerschmidt, 2005).

 

الأرقام الصادمة: تجسيد الاختلال (البيانات الديموغرافية)
تعكس الإحصاءات السكانية حدة المشكلة (تستند تقديرات إلى تقارير الهيئات الإحصائية الرسمية ودراسات حديثة):

الإمارات

 ~11% مواطنون

مصدر: الهيئة الاتحادية للتنافسية والإحصاء

قطر

 

 

الكويت

 

 

البحرين

 

عُمان

 

 

السعودية

 ~12% مواطنون

 

 

~30% مواطنون

 

 

~47% مواطنون

 

~57% مواطنون

 

 

~63% مواطنون

مصدر: وزارة التخطيط التنموي والإحصاء

مصدر: الهيئة العامة للمعلومات المدنية

مصدر: الجهاز المركزي للمعلومات

مصدر: المركز الوطني للإحصاء والمعلومات

مصدر: الهيئة العامة للإحصاء

 

 

(مع إقرار بوجود أعداد كبيرة من المقيمين غير النظاميين)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نحو حلول سوسيولوجية

إعادة هندسة البنى لا إقصاء البشر: إن مواجهة هذه الأزمة المعقدة تتطلب رؤية استراتيجية تعيد هندسة البنى الاقتصادية والهياكل الاجتماعية التي أنتجتها، وليس فقط استهداف الوافدين وهذا من خلال:

- تجاوز النموذج الريعي: تنويع الاقتصاد بشكل حقيقي لخلق فرص عمل منتجة وجاذبة للمواطنين في القطاع الخاص، مع رفع كفاءته التنافسية. هذا يتطلب تحولًا جذريًا في النموذج الاقتصادي بعيدًا عن الاعتماد الكلي على النفط.

- إصلاح سوق العمل: تطبيق سياسات "توطين" (Saudization, Emiratisation) فعالة وعادلة، ومراجعة أنظمة الكفالة، وربط تصاريح العمل بالاحتياج الفعلي والمهارات النادرة. يجب أن تكون هذه السياسات مدعومة ببرامج تدريب وتأهيل للمواطنين.

- تطوير بنى الرعاية الاجتماعية: استثمار حكومي ضخم في حضانات ورياض أطفال عامة وبأسعار معقولة، وخدمات مساندة للأسر (نقل مدرسي، رعاية مسنين، خدمات منزلية مؤسسية) لتقليل الاعتماد الفردي على الخدمة المنزلية الوافدة. هذا يُقلل من الطلب على العمالة الوافدة في القطاع الخدمي.

- تمكين شبابي حقيقي: توجيه سياسات التعليم لسوق العمل المستقبلي، وتشجيع ريادة الأعمال، وإعادة النظر في التوقعات المجتمعية تجاه أنواع العمل المقبولة للمواطن الذكر والأنثى. يجب كسر الحواجز الثقافية المتعلقة ببعض أنواع العمل.

- سياسات سكانية متوازنة: وضع أهداف ديموغرافية واضحة طويلة المدى، مع سياسات هجرة ذكية تُركز على الجودة والاحتياج التنموي الحقيقي، وليس الكمية والرخص. هذا يتطلب تخطيطًا ديموغرافيًا شاملًا يُراعي الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

الخلاصة:

نحو نموذج "دولة الرعاية الإنتاجية"، الأزمة الديموغرافية ليست "غلطة تقنية" بل نتيجة حتمية لثلاثية متكاملة:

  1. اقتصاد الريع: يحول المواطن إلى مستهلك لا منتج. 
  2. سوق العمل الثنائي: يكرس التراتبية (مواطن/وافد).
  3. الرعاية المُستَورَدة: يعمق الاعتماد على العمالة الأجنبية.

إنه من الممكن أن التجارب الحديثة (رؤى 2030، 2071) قد حققت نجاحات كمية (خفض البطالة) لكنها لم تُهندس تحولاً جذرياً في البنى الاجتماعية. 

التوصيات: إعادة هندسة العقد الاجتماعي 

  1. كسر دائرة الريع
  • تحويل الدعم: تحويل إعانات الوقود إلى استثمار في حضانات مؤسسية.
  • ربط التوطين بالإنتاجية: ربط برامج التوطين بمؤشرات القيمة المضافة (لا الأعداد). 
  1. تفكيك نظام الكفالة
  • نظام العقد الموحد: استبدال الكفالة بعقود عمل تضمن حرية التنقل.
  • ربط التصاريح بالمهارات: تصاريح عمل مرتبطة بمهارات نادرة (لا برغبة الكفيل). 
  1. بناء اقتصاد الرعاية الوطني
  • شبكة حضانات وطنية: إنشاء مراكز رعاية مدعومة تغطي 70% من الأحياء السكنية.
  • إجازات أبوة إلزامية: 90 يوماً لتحفيز مشاركة الرجل في الرعاية. 
  1. إصلاح التعليم لسوق المستقبل
  • مناهج ريادية: دمج مهارات الابتكار والاقتصاد الأخضر في التعليم الأساسي.
  • شهادات مهنية موازية: معادلة الخبرة العملية بالشهادات الأكاديمية.
  1. سياسات ديموغرافية استراتيجية وطويلة المدى
  • وضع أهداف ديموغرافية واضحة: تشمل نسبة مواطن/وافد مستهدفة على مدى 20-30 سنة، مع خطط مرحلية.
  • تخطيط ديموغرافي متكامل: يربط سياسات الهجرة بخطط التنمية الاقتصادية، الإسكان، التعليم، والصحة، ويراعي الأبعاد الاجتماعية والثقافية والأمنية.
  • تعزيز الاندماج (للوافدين الضروريين): سياسات تعزز التفاعل الإيجابي واحترام الثقافة المحلية، مع ضمان حقوق الإنسان الأساسية.

الخاتمة
إن أزمة التركيبة السكانية في الخليج ليست نتاج "غزو" خارجي، بل هي ثمرة "هندسة اجتماعية-اقتصادية" داخلية قائمة على الريع النفطي وغياب البدائل التنموية المستدامة. التغلب عليها يتطلب جرأة في نقد الذات وإرادة سياسية لتفكيك البنى التي أنتجت الاختلال، وبناء نموذج تنموي جديد يرسخ التوازن الديموغرافي ويعزز الهوية الوطنية والاستقرار الاجتماعي على أسس إنتاجية ومستدامة.

 

About the Author