X638311283768843821

 



Banner-02

حين يصبح الحلم واقعًا... تأملات خريج في حضرة اللغة

29 May, 2025 |
  • بقلم: قصي بن سليم بن سليمان المسلمي

 

ها أنا أقف اليوم على عتبة النهاية، نهاية طريقٍ بدأتُه منذ سنواتٍ أربعٍ أو يزيد، نهايةٍ ليست ككل النهايات، بل هي بداية أخرى تُشرق من رحم التعب، ووَلِيدَةُ سهرٍ ودموعٍ، وضحكاتٍ لا تُنسى.

أتممتُ — بحمد الله — متطلبات درجة البكالوريوس في تخصص اللغة العربية وتخصص فرعي في الصحافة والنشر الإلكتروني، وتلك العبارة التي طالما قرأتها في خطط الدراسة والمناهج، أصبحت الآن حقيقة ملموسة. كم من مرةٍ كنت أُمَنِّي نفسي بذلك اليوم الذي أُغْلِقُ فيه آخر ملف، وأضع آخر نقطة في آخر اختبار، وأتنفّس الصعداء قائلًا: "لقد فعلتها". وها أنا قد فعلتها.

يا لهذا القلب، كم احتمل من توترٍ وسهر، كم انتظر موعد النتائج بوجل، وكم خفق فرحًا حين جاءت درجات الاجتهاد شاهدة على التعب الذي لم يذهب سُدى. لم تكن الرحلة سهلة، ولم تكن ممهدةً بالورود، بل كانت دربًا من التحديات، تسير فيها تارة على أرضٍ صلبة، وتارة أخرى في طريقٍ وعرٍ يوشك أن يسرق منك العزيمة، لولا أن نور الطموح كان دائمًا يَلُوحُ لك من بعيد.

أذكر بدايتي جيدًا، حين دخلتُ إلى قاعات الدراسة وأنا مُحَمَّلٌ بمزيج من الحماس والخوف. كنت أتساءل في نفسي: "هل أنا أهلٌ لهذه اللغة العظيمة؟ هل سأستطيع أن أبحر في محيطاتها، وأفهم أسرارها، وأتذوق جمالها كما يليق بها؟" لم أكن أعلم حينها أن هذا التخصص سيأسرني بكل تفاصيله، وأن اللغة ستصبح لي وطنًا ثانيًا، أعيش فيه، وأتنفّس منه، وأرى العالم بعينيه.

ما أجمل تلك اللحظات التي قضيناها بين كتب النحو والصرف، في قراءة القصائد القديمة، وتحليل النصوص الحديثة، والتأمل في البلاغة وجماليات البيان! لقد كانت السنوات الجامعية مسرحًا واسعًا للعقل والروح، نكتشف فيه أنفسنا كما نكتشف أسرار الحروف.

لكن أجمل ما في الرحلة — بعد العلم — هم أولئك الرفقاء الذين ساندوني، وشاركوني الدرب بخيره ومرّه. كم من ليلة جمعنا فيها القلق قبل الامتحانات، وكم من صباحٍ ضحكنا فيه على مواقف بسيطة صارت الآن ذكريات لا تُقدَّر بثمن. كنا ندرس سويًا، وننهار سويًا، ثم ننهض من جديد، نُشَجِّعُ بعضنا البعض، نُذَكِّرُ بعضنا بأهدافنا، ونقول: "لم يَتَبَقَّ الكثير".

وهنا، في لحظة النهاية، لا يسعني إلا أن أغمض عينيّ قليلًا وأعود بذاكرتي إلى أول يوم، إلى أول محاضرة، إلى أول خطوة على هذه الأرض الأكاديمية. ما أسرع الأيام حين تمضي! وما أثقلها حين نعيشها!

اليوم، أشعر بِشُعُورٍ مزيجٍ من الفرح والحنين. فرحٌ بأنني وصلت، وحنينٌ لما كان. أود أن أحتضن كل من ساعدني، من أساتذتي الذين علّموني، ورفاقي الذين مشوا الطريق معي، وعائلتي التي كانت سندي الأول في كل لحظة. لولا دعاؤهم، لولا إيمانهم بي، لما كنت على هذه العَتَبَةِ اليوم.

ليس هذا مجرد تخرج، بل شهادة على أنني خضت رحلة في قلب اللغة، وخرجت منها وفيّ شيءٌ منها. حبُّ العربية، عشقًا لا يُفَسَّرُ، فأصبحتُ أشعر أنها تسكنني كما أسكنها. أريد أن أكتب بها، وأحكي بها، وأُعلّم بها، وأن أكون من أهلها ما حييت.

وفي الختام، أقول لكل مما زال في الطريق: ستتعب، نعم، وستشكّ أحيانًا، وستنهار أحيانًا أخرى. لكن لا تنسَ أن كل خطوةٍ تقطعها، وكل حرفٍ تحفظه، وكل ورقة تكتبها، تُقَرِّبُكَ من تلك اللحظة التي طالما انتظرتها، والتي ستقول فيها لنفسك: "أنا فعلتها." وإن فعلتها، فاعلم أن اللغة لم تكن مجرد تخصص… بل كانت هويتك الجديدة.

 

About the Author