تطور إنتاج النفط في سلطنة عمان: رحلة من الاكتشاف إلى الاستدامة والابتكار
- بقلم د. طارق العربي قناط، كلية الهندسة
يُمثل النفط عصب الحياة الاقتصادية الحديثة للعديد من الدول، وسلطنة عمان ليست استثناءً. فمنذ اكتشافه في ستينيات القرن الماضي، شكّل النفط حجر الزاوية في مسيرة التنمية والتحديث التي شهدتها عمان، محولاً إياها من اقتصاد تقليدي يعتمد على الزراعة والصيد وتجارة اللبان إلى دولة عصرية ذات بنية تحتية متطورة ومستوى معيشي مرتفع. يهدف هذا المقال إلى تتبع تطور إنتاج النفط في سلطنة عمان، مستعرضًا المراحل الرئيسية منذ البدايات وحتى الوقت الحاضر، مع التركيز على التحديات، والابتكارات التكنولوجية، والتوجهات الاستراتيجية التي رسمت ملامح هذا القطاع الحيوي.
-1 مرحلة الاكتشاف والتأسيس (الماضي)
بدأت قصة النفط في عمان فعليًا مع توقيع أول اتفاقية امتياز للتنقيب عن النفط في عام 1925، ولكن الاكتشافات التجارية تأخرت حتى أوائل الستينيات. ففي عام 1962، تم اكتشاف أول حقل نفطي تجاري وهو حقل "فهود"، تلاه اكتشاف حقول أخرى هامة مثل "نطيح" و "يبال". تولت شركة تنمية نفط عمان (PDO)، وهي مشروع مشترك بين الحكومة العمانية وشركات نفط عالمية، مسؤولية تطوير هذه الحقول وبدء الإنتاج.
صدرت أول شحنة نفط عماني في عام 1967، إيذانًا ببدء حقبة جديدة في تاريخ البلاد. ترافق هذا الحدث مع تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- مقاليد الحكم في عام 1970، والذي وظّف عائدات النفط بحكمة لبناء الدولة الحديثة. تميزت هذه الفترة بـ:
- التركيز على النفط التقليدي الخفيف: كانت الحقول المكتشفة في البداية تحتوي على نفط خام خفيف نسبيًا وسهل الاستخراج.
- بناء البنية التحتية الأساسية: شمل ذلك خطوط الأنابيب، ومرافق التخزين، وميناء التصدير (ميناء الفحل).
- زيادة الإنتاج التدريجي: شهد الإنتاج نموًا مطردًا مع اكتشاف وتطوير المزيد من الحقول.
- الدور المحوري لشركة تنمية نفط عمان : كانت الشركة هي المشغل الرئيسي والمسؤول عن غالبية الإنتاج في البلاد.
شكلت عائدات النفط خلال هذه الفترة الدعامة الأساسية لتمويل مشاريع البنية التحتية كالطرق والمستشفيات والمدارس، وساهمت بشكل مباشر في تحسين نوعية حياة المواطنين.
- 2مرحلة النضج والتحديات (الانتقال إلى الحاضر)
مع مرور الوقت، بدأت العديد من الحقول النفطية الكبيرة في الدخول إلى مرحلة النضج، مما أدى إلى انخفاض طبيعي في معدلات الإنتاج. واجهت السلطنة تحديًا كبيرًا تمثل في كيفية الحفاظ على مستويات الإنتاج، بل وزيادتها، في ظل تراجع إنتاجية الحقول القديمة. تطلب هذا الأمر تحولًا استراتيجيًا وتكنولوجيًا هامًا:
- التحول نحو النفط الثقيل والمستعصي: بدأت السلطنة بالتركيز على استغلال مكامن النفط الثقيل والنفط المحصور في طبقات صخرية معقدة، والتي تتطلب تقنيات استخلاص متقدمة.
- تطبيق تقنيات الاستخلاص المعزز للنفط : أصبحت عمان رائدة عالميًا في تطبيق تقنيات الاستخلاص المعزز للنفط، مثل الحقن الحراري (البخار)، والحقن الكيميائي، وحقن الغاز. وتعد مشاريع مثل مشروع "أمل" للنفط الثقيل ومشروع "مخيزنة" أمثلة بارزة على نجاح هذه التقنيات.
- جذب الاستثمارات الأجنبية والشراكات: عملت الحكومة على تحسين مناخ الاستثمار لجذب شركات نفط عالمية أخرى للمساهمة في تطوير الحقول الصعبة وتقديم خبراتها التكنولوجية.
- 3 الحاضر والتوجهات المستقبلية
يتميز قطاع النفط العماني اليوم بالديناميكية والقدرة على التكيف مع المتغيرات العالمية والتحديات الجيولوجية. وتشمل أبرز ملامح الوضع الراهن والتوجهات المستقبلية:
- الاستمرار في تطوير تقنيات الاستخلاص المعزز : تبقى هذه التقنيات حجر الزاوية لتعظيم الاستفادة من المكامن النفطية القائمة. تستثمر السلطنة بكثافة في البحث والتطوير لتحسين كفاءة هذه التقنيات وخفض تكلفتها.
- التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي : يتم تبني أحدث التقنيات الرقمية مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء لتحسين كفاءة العمليات، وخفض التكاليف، وزيادة دقة التنبؤ بأداء المكامن.
- الاستدامة البيئية وخفض الانبعاثات : تولي عمان أهمية متزايدة لتقليل الأثر البيئي لعمليات إنتاج النفط. ويشمل ذلك مشاريع لخفض حرق الغاز المصاحب، واستخدام الطاقة الشمسية في عمليات الإنتاج (مثل مشروع "مرآة" لتوليد البخار بالطاقة الشمسية لاستخدامه في الاستخلاص المعزز للنفط)، واستكشاف تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه.
- تنمية الكوادر الوطنية (التعمين) : هناك تركيز مستمر على تأهيل وتدريب الكوادر العمانية لتولي المناصب القيادية والفنية في قطاع النفط والغاز، مما يساهم في بناء قدرات وطنية مستدامة.
- التنويع الاقتصادي ضمن رؤية "عمان 2040: تدرك السلطنة أهمية عدم الاعتماد الكلي على النفط كمصدر وحيد للدخل. لذا، تسعى رؤية عمان 2040 إلى تنويع مصادر الدخل القومي وتنمية قطاعات أخرى واعدة، مع استمرار قطاع النفط والغاز في لعب دور هام كمُمكّن لهذا التحول ومصدر للتمويل.
- الاستكشافات الجديدة : على الرغم من نضج العديد من الحقول، تستمر جهود الاستكشاف في مناطق جديدة برية وبحرية، مع التركيز على الغاز الطبيعي أيضًا، الذي يُعد شريكًا استراتيجيًا للنفط في تلبية احتياجات الطاقة المحلية والصناعية.
التحديات المستمرة
رغم النجاحات، يواجه قطاع النفط العماني تحديات مستمرة، أبرزها:
- الطبيعة المعقدة للمكامن المتبقية : تتطلب المكامن المتبقية استثمارات أكبر وتقنيات أكثر تطورًا لاستخراج النفط منها.
- تقلبات أسعار النفط العالمية : تؤثر هذه التقلبات بشكل مباشر على إيرادات الدولة وخطط الاستثمار في القطاع.
- التحول العالمي نحو الطاقة المتجددة : يفرض هذا التحول ضغوطًا على المدى الطويل لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، مما يستدعي من عمان تسريع وتيرة التنويع الاقتصادي والاستثمار في الطاقات النظيفة.
لقد قطع قطاع إنتاج النفط في سلطنة عمان شوطًا طويلاً منذ الاكتشافات الأولى. فمن الاعتماد على النفط التقليدي سهل الاستخراج، انتقلت السلطنة ببراعة إلى مرحلة استغلال الموارد الأكثر تعقيدًا وصعوبة، معتمدة على الابتكار التكنولوجي، والشراكات الاستراتيجية، والرؤية الثاقبة. وبينما يظل النفط مكونًا حيويًا في الاقتصاد العماني في الحاضر والمستقبل المنظور، فإن التوجه نحو الاستدامة، والتحول الرقمي، والتنويع الاقتصادي ضمن إطار "رؤية عمان 2040" يضمن للسلطنة مواصلة مسيرتها التنموية بنجاح، مع تحقيق التوازن بين استغلال ثرواتها الطبيعية والمحافظة على البيئة للأجيال القادمة. إن قصة النفط في عمان هي قصة تحدٍ وابتكار، وهي مستمرة في التطور لمواكبة متطلبات المستقبل.
About the Author